قبل بضعة عشر يوماً من دخوله المستشفى، جاءني في زمن الوباء الكئيب هذا، رسولٌ من رياض نجيب الريّس حاملاً ما خلته، على جاري العادة، حلويات وبرازق شاميةّ... لكنّه لم يكن.
كان كتابه الرقم 38 منذ بدأ النشر شعراً ونثراً مطلع الستينات من القرن الماضي، عنوانه "صحافة النسيان"، والإهداء "إلى كل صحافيّ شجاع حاول أكثر من غيره ولم ييأس"، وفيه يستعيد "بعض تاريخي الصحافي"، ويرجع "إلى ما أُسمّيه أنا تاريخ ما أهملته الصحافة والقرّاء معاً"، وذلك في مقالات تسعة اختارها من منشوراته: ما نسيه اليمنيّون، ما نسيه الخليجيّون، ما نسيه السوريّون، ما نسيه اللبنانيّون، ما نسيه القوميّون، ما نسيه الشعراء، ما نسيه المثقّفون، ما نسيه المسلمون، ما نسيه المصرفيّون.
فهل كان يحسب، وهو يجمع مادة الكتاب، ثمّ وهو يوقّع مقدّمته في نيسان ليصدر في تشرين الأوّل 2020، أنّه سيكون الأخير له؟ ربّما كان.
وهل كان يسلّم في ذروة المعاناة – وهو الذي لا يسلّم بسهولة – بأن منازلته والوباء ستكون كذلك الأخيرة؟ ربّما. والأرجح أنّه لم يفعل.
عصر السبت، انطفأ سراج رياض نجيب الريس بعدما أتعب المكيال الذي حمله 83 سنة، وتوقّف قلبه المكلوم بعدما ناء بنبضاته.
* * *
تعرّفت إلى رياض نجيب الريّس في "النهار" عندما جاء به غسان تويني محرّراً جديداً من خرّيجي مدرسة برمّانا العالية وجامعة كايمبريدج، وقامت بيننا علاقة مهنيّة، ثم شخصيّة، فأخويّة على قاعدة مقولة "شعب واحد في بلدين" لوالده في الثلاثينات، تعززت بكون ثلاثتنا ننتسب إلى عائلات صحافية لبنانية وسورية تعاصر أربابها في ما مضى من منابر "القبس" (نجيب الريّس)، و"النهار" (جبران تويني) و"البيرق" (أسعد عقل). وبينما كان مفترضاً أن يعنى بالشؤون الاقتصاديّة الدوليّة، سرعان ما تحوَّل إلى السياسة مُراسلاً جوّالاً في الخليج العربي واليمن وغيرهما، وكان من أوائل الصحافيّين الذين ارتادوا تلك الأنحاء، فضلاً عن إدارته شركة "الخدمات الصحفيّة" من مجموعة "النهار".
أمّا خارج "النهار"، فقد أصدر صحيفة "المنار" اليوميّة في لندن زمناً، ثم مجلة "النقاد" الأسبوعيّة في بيروت، وأعاد نشر كل ما كتبه والده في بضعة مجلّدات، إلى إنشائه دار "رياض الريّس للكتب والنشر" الطليعيّة المرموقة في لبنان والعالم العربي.
وفي كل المواقع التي تولّاها تباعاً، كان رياض نجيب الريّس هو إيّاه، كريماً، مقداماً، جسوراً، مغامراً، ضحوكاً، ساخراً ولكن، شأن سمك الزلّيق، يصعب التقاطه!
سنفتقده كثيراً، ونذكره كثيراً، لأن مثله قليل.
هل كُتب لي، أو كُتب عليّ، أن أودَّع هذا العدد الكبير من الأحبّاء والزملاء والرفاق في "النهار"، منذ بدأت مشواري مع الديك الأزرق قبل 57 سنة؟
خمسون غابوا عنّا وما غاب ذكرهم، واليوم يوافيهم إلى دار الخلد الحادي والخمسون:
غسان تويني، جبران تويني، لويس الحاج، ميشال أبو جودة، أنسي الحاج، مارك رياشي، رشدي المعلوف، مي منسى، رفيق المعلوف، إدمون صعب، سمير قصير، عدلي الحاج، جوزف نصر، نبيل ناصر، إميل داغر، عصام محفوظ، نزيه خاطر، علي هاشم، بيار صادق، أحمد شومان، بهجت جابر، صباح زوين، جهاد أبو جودة، فؤاد الخوري، الياس شلالا، فؤاد هرموش، عبد الغني البنداق، فايز صفير، جورج أبو رزق، نجيب اسكندر، نصرت خريش، ادمون شديد، رامز اسماعيل، نبيه باشو، ميشال متى، يوسف حماده، خليل نحاس، عبد القادر اسماعيل، ميشال غفري، سام مزمانيان، جورج سمرجيان، مايك ميناسيان، سميرة خوري حملاسو، محمود غزالة، ريمون صوايا، معروف المحمود، حسام منتش، نايف خوري، وليد زاكي، محمد قبيسي... رياض نجيب الريّس.