لم يكن شهر «تشرين الأول» (أكتوبر) - في تقويمي الشخصي في الأقل - سوى شهر عابر يتغير فيه التوقيت الصيفي إلى الشتوي، وتعود عقارب الساعة 60 دقيقة إلى الوراء، ربما كان يعني شهر العودة إلى المدارس، إذ تنتشر القمصان البيضاء والصداري الزرق في شوارع المدينة حيث كسل الأيام المقتطعة من الصيف.

قد نصادف في هذا الشهر مطراً خجولاً مفاجئاً، ونلوذ بالجدران القريبة، وربما يكون شرطي المرور قد تخلى عن قميصه الأبيض، وارتدى قميصه الكحلي الداكن، وهو يستبق الشتاء الذي قد يتأخر قليلاً.

في العام الماضي، لم يقبل «أكتوبر» بهذه المعادلة القائمة على الذكرى، فقرر أن يكون ثورة، ففي الأول منه، تدافع شباب في عمر الجمال العراقي إلى ساحة التحرير، وقرروا أن يأتوا بفكرة جديدة عن الوطن. فكرة حقيقية لم تصنعها الاحتلالات ولا المعاهدات ولا خيالات السياسة.. وطن يصنعه الشباب الذين هم خلاصة روح هذا البلد العريق وعقله الشجاع، وخلال أيام عصيبة اختلط فيها الهتاف والدخان والرصاص بالدم والموت، شهدنا ولادة أسطورية لمعنى أن يكون الوطن وطناً.. هناك ولادة الثورة وهي تحمل على أكتافها روح 800 شهيد وآلاف الجرحى والمفقودين.. ودعناهم ـ ونودعهم ـ بحزن الأمهات الأبدي، وفجيعة الآباء التي ليس لها من نهاية.

تشرين لم يعد بعدها شهر التوقيت الشتائي، ولم تتراجع فيه عقارب الساعة إلى الوراء، فالوطن لم يعد مسألة وقت، لقد صار عمر السعدون وصفاء السراي وريهام يعقوب، وأسماء خالدة أخرى توقيتاً محلياً للبلاد، ففي صورة كل شهيد تصادفنا، تكسر القلوب، وتشرق شمس لم يتحسس دفئها سوى من تعلقت روحه بتشرين كأعظم الآمال، التي يمكن أن يعرفها شعب وعلى مر تاريخ الإنسان على هذه الأرض.

تشرين يعود هذا العام، والثورة التي حاول الرصاص الهمجي أن يقتلها هي الآن أكبر، صوتها المخنوق خلف جدران الاختطاف يدوي في السماء «نريد وطناً».

تولد الشهور في التقاويم البطيئة، ووحده تشرين يولد في ساحة التحرير ببغداد، وكل الأعياد «الوطنية» تأتي عطلاً رسمية إلا تشرين فهو يأتي على هيئة «عراق» لا يعرف التعب.