ترجمة عمر فروخ للفقرة التي تلطّف في صياغتها كانت على النحو الآتي: «فلا ريب إذن في أن هذا الاتجاه، الذي تتميز به المدنية الغربية الحديثة، لا يجد قبولاً في التفكير الديني المسيحي، كما لا يجد قبولاً في الإسلام أو في كل دين آخر، وذلك لأنه لا ديني في جوهره. وهكذا تكون نسبة نتاج المدنية الغربية الحديثة إلى النصرانية خطأً تاريخياً عظيماً. إن النصرانية ساهمت في جزءٍ يسير جداً من الرقي العلمي المادي الذي فاق به الغرب، في مدنيته الحاضرة كل ما سواه. وفي الحق أن ذلك النتاج قد برز من كفاح أوربة المتطاول للكنيسة المسيحية ولاستشرافها للحياة».
إن تلطيف عمر فروخ لصياغة هذه الفقرة وتصرفه فيها إلى حدٍ كبير سببه أنه لبناني مسلم؛ فهو لم يرد أن يترجمها كما هي بعباراتها الناشفة الحادة حتى لا تستفز مشاعر المسيحيين الدينية في بلده، لبنان، ولكيلا يكون كتاب محمد أسد عن الإسلام ومحمد أسد نفسه المتحول الجديد إلى الإسلام منفّرَين لهم، ومنفّرين للمسيحيين في بقية البلدان العربية، كفلسطين وسوريا والعراق ومصر.
وهناك مثال آخر لهذا الأمر؛ فمحمد أسد يقول في المتن: «ثم إن للنصرانية في نظر السواد الأعظم معنى شكلياً فقط، كما كانت حال آلهة روما». فيضع عمر فروخ هامشاً تفسيرياً، قال فيه في الطبعة الأولى وفي الطبعة الثانية: «ليس من شك في أن المؤلف إنما يقصد من حكمه هذا نصارى أوربة». وفي الطبعة الثالثة والطبعات التي تلتها اختصر هذا الهامش إلى: «يقصد المؤلف من حكمه هذا نصارى أوربة».
إنني أتيت بهذين المثالين لأدفع عن عمر فروخ تحامل الدكتور حمزة عليه؛ فهو في حديثه عنه عده في عبارة مغلفة، هي الأدلجة ومشتقاتها، من غلاة الإسلاميين. وهذا حكم خاطئ على العلامة عمر فروخ. نعم، عمر فروخ يتوفر على نزعة دينية وحميّة إسلامية، كما أنه مفكر محافظ في مجال الدينيات ومجال الأدب واللغة ومجال التاريخ وفي ترجمته لكتاب فيليب حتي، «الإسلام منهج حياة»، لكنه ليس متعصباً دينياً، ولا يكتب ولا يفكر كما علماء الدين المسلمين التقليديين ولا كالذين يحملون صفة الإسلاميين. ولعل ما يميز كتابات فروخ عن كتابات الإسلاميين هو تحقُّق الشرط العلمي فيها، بينما هؤلاء لا يعبأون بتحقق الشرط العلمي في كتاباتهم، أو هم غير قادرين على تحقيقه.
في هامش رقم 5 (وسأورد نصه كاملاً) يقول محمد أسد: «شهدنا في النصف الأخير للقرن العشرين تحسناً كبيراً في هذا الخصوص؛ فالكتابات الغربية عن الإسلام والمسلمين تُظهِر تقدماً تدريجياً في تقدير المنهج الإسلامي واتجاهات المسلمين، واختفت محاولات تشويه صورة الإسلام من الكتابات الاستشراقية الجادة، ولو أن قلة من المستشرقين لم يتخلصوا تماماً من تحيزهم بعد».
هذا الهامش أيضاً استدراك متأخر على ما قاله في المتن. وهو قوله: «فإننا - بالضرورة - يجب أن نصل إلى استنتاج أن العقل الغربي - عموماً - ولسبب أو لآخر - متحيز ضد الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية».
في هامش رقم 6 (وسأورد نصه كاملاً) يقول محمد أسد: «لا بد أن يؤخذ في الاعتبار أن هذا الكلام كُتِب عام 1933م. وكما ذكرتُ من قبل: لقد حدث تغيير في كتابات المستشرقين في العقود التالية، ولكن ما يمكن تسميته (العقل الأوروبي والأمريكي) لم يستطع بعد الوصول إلى نظرة متوازنة تجاه الإسلام وما يتعلق به، إلا أن المسلمين ملومون إلى حد كبير. أولاً: لعدم تقديمهم الإسلام بصورة يفهمها العقل الغربي. وثانياً: لسوء تجسيدهم لأهدافهم الدينية والاجتماعية - السياسية».
هذا الهامش أيضاً هو استدراك متأخر على ما قاله في المتن، وقد أراد به أن يخفف من غلواء ما قاله، فهو في المتن قال: «وعلى حين مر زمن على تحرر العلوم الاستشراقية من التأثير التبشيري، فلم يبق معها لعلوم الاستشراق عذر من التعصب الديني، فإن تحيز المستشرقين ضد الإسلام صار شبه غريزي، بناء على الانطباع الذي سبَّبَته الحملات الصليبية بجميع نتائجها على عقل أوروبا القديمة».
المستشرقون (كما نعلم) ليسوا كلهم من المسيحيين؛ ففيهم يهود. واليهود ضد التبشير المسيحي، لأنه يهدد ديانتهم ويهدد حصتهم العددية القليلة في الوجود. وهم خارج نطاق التعلق بميراث الحروب الصليبية، بل إن لهذا الميراث ذكريات أليمة عندهم سواء أكانوا أيام الحروب الصليبية من سكان «الجيتّو» في أوروبا أو من سكان أرض فلسطين.
في هامش رقم 7 (وسأورد نصه كاملاً) يقول محمد أسد: «ومع ذلك فإن زيادة ثروة بلاد المسلمين نتيجة لمواردها النفطية الهائلة، وبالتالي زيادة أهميتها في المحيط الاقتصادي والسياسي، قد جلبت معها اهتماماً أوروبياً كبيراً في العالم المسلم (في حقل الفن والتاريخ بخاصة)، أما عن الدين فإن الإسلام لا يزال مجهولاً في الغرب، بالرغم من الاجتماعات والندوات والحوارات بين المسلمين والمسيحيين».
هذا الهامش هو استدراك على ما جاء في خاتمة تحليله الذي قال فيه: «لكن في الوقت الذي فقد فيه الإسلام معظمهم أهميته التأثيرية، بالمقارنة مع المصالح الأوربية السياسية، فإن من الطبيعي، مع تقلص الخوف من الإسلام، أن تتقلص حدة الشعور بمعاداة الإسلام لدى الغرب. وإذا خف ظهور هذه المشاعر ونشاطها، فلا يخولنا ذلك استنتاج أن الغرب صار أقرب إلى الإسلام، بل يشير إلى زيادة عدم اكتراث الغرب بالإسلام».
ولأن الدكتور حمزة المزيني لا يعرف تاريخ الطبعة الأولى للكتاب باللغة الإنجليزية، ولا تاريخ الطبعة الأولى لترجمته إلى اللغة العربية، فإنه لم يتنبه إلى أن الهامش يتحدث عن فترة زمنية في تاريخ اهتمام الغرب بالإسلام، وهي فترة ما بعد عام 1973، وذلك بعد قرار حظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة وإلى هولندا ودول أخرى كانت تدعم إسرائيل في حرب أكتوبر. وهو القرار الذي نتج عنه ارتفاع سعر النفط.
في هامش 9 يقول محمد أسد: «إذا لم نتبع السنّة في أحوالها الثلاثة، أي أنها طريقة حياة النبي صلى الله عليه وسلم...».
هذا الهامش زيادة في توضيح ما كتبه في عام 1933، ونشره في عام 1934، بالإنجليزية من أن « كلمة سُنّة تستعمل هنا بمعناها الأوسع، أي القدوة التي وضعها الله لنا في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأعماله ومواقفه».
هامش رقم 10، وهو الهامش الأخير يحيل إلى هامش رقم 9، ويزيد في توضيح ما قاله في المتن، وهو قوله: «ومهما تكن الحال، فإننا ملزمون بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وباتباعه بشرط ثبوت صحة أمره أو نهيه».
أما ما قاله الدكتور حمزة في ملحوظته الأولى من أن عمر فروخ في ترجمته لم يلتزم بما اختاره من ضم تفاسيره وتعاليقه في المتن نفسه بعد أن حصرها بين معقوفتين؛ فقد كتب (كما قال) بعض التعليقات في هوامش بعض الصفحات... فأقول، ردّاً على هذه الملحوظة، إن ما أضافه عمر فروخ إلى متن الكتاب من تفاسير وتعاليق ووضعها بين معقوفتين تختلف عما كتبه في حواشي الكتاب؛ فالأولى أراد بها أن تكون جزءاً مكملاً للمتن، فالمؤلف في مقدمته كان قد صرّح بأن كتابه كتاب مجمل مختصر سينكشف عن حمله الآخرين على زيادة التفكير في بعض النواحي الأساسية في الإسلام، وعلى الأخص فيما يتعلق بالسُّنة. ولقد علّق عمر فروخ على هذا الإيضاح في أحد هوامشه بقوله: «إن اتساع الموضوع (موضوع مسايرة الإسلام لحوادث العالم الجارية) هو الذي جعل المؤلف يوجز في الكلام، فيُلّم هو بالنظرة العامة ويترك مهمة للباحثين في تفصيل هذا الموضوع العظيم».
أما الثانية، أو ما كتبه في بعض حواشي الكتاب فهي تتراوح ما بين إحالة وتعريف بمفهوم وإشارة لحادثة.
إنني أميل إلى أن الدكتور حمزة حين رجع إلى كتاب محمد أسد باللغة الإنجليزية ليتأكد من وجود العبارة المنسوبة إلى غلادستون، قرأه قراءة عجلى وناقصة، واكتفى بمطالعة هوامشه مطالعة هي الأخرى عجلى، بدليل أنه لم يذكر أن عمر فروخ لم يترجم كلمة المؤلف التي كتبها في طنجة عام 1982.
إن الدكتور حمزة لو أنه قرأ كلمة المؤلف، ولو كان يعرف تاريخ طبعته الأولى التي ترجمها عمر فروخ إلى العربية، لعرف أن كلمة المؤلف كتبها المؤلف بعد مرور ما يقارب من نصف قرن على صدور الطبعة الأولى من كتابه باللغة الإنجليزية.
ولو أنه تدبر هذه الكلمة، لرأى أن المؤلف في بعض فقراتها كان يسوغ ويبرر لراديكاليته الإسلامية التي كان لها أثر سيئ على بعض المؤلفات الإسلامية، وعلى الصحوة الدينية في العالم الإسلامي بدعوى إساءة فهم كتابه، وهذه مسألة سأرجئ الحديث عنها إلى مقال قادم.
كما يتوفر دليل آخر على أن قراءة الدكتور حمزة للكتاب باللغة الإنجليزية هي قراءة عجلى وناقصة. ففي ترجمة عمر فروخ للكتاب قبل الخاتمة هناك عنوانان هما «السنة والحديث»، و«روح السنة». وفي الطبعة التي رجع الدكتور حمزة إليها لا يوجد إلا العنوان الأول؛ فلماذا لم يضف هذه الملحوظة إلى الملحوظتين اللتين ذكرهما؟!
وهنا أبيّن أن العنوانين موجودان في الطبعة الأصلية للكتاب باللغة الإنجليزية، لكن المؤلف في الطبعة المنقحة التي رجع حمزة اليها أدمج فصل «روح السنة»، في فصل «السنة والحديث»، وحذف عنوان «روح السنة». ربما لأنه اختصر معظم صفحاته.
وقد أثار استغرابي أن الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين في ترجمته طبعة الكتاب المنقحة غير عنوان «السنة والحديث» إلى عنوان «الكتاب والسنة». وقد حرت في العثور على السبب الذي حمله على هذا التغيير.
قد يكون السبب أن محمد أسد في فصل «السنة والحديث» اعتبر السنة رديفاً للقرآن من حيث الدلالة والتوضيح، وأن القرآن لا يمكن فهمه إلا بواسطة السنّة. وهي القضية التي ألحّ محمد أسد على تأكيدها في هذا الفصل، وفي الفصل الذي تلاه: «روح السنة»، فرأى الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين أن العنوان الأنسب هو «الكتاب والسنة» لا «السنة والحديث».
ولقد أخطأ الشيخ في اجتهاده هذا؛ فالقرآن الذي هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، لم يكن هو موضوع رد ومجادلة محمد أسد في هذين الفصلين؛ فهو في هذين الفصلين يرد على الشبهات التي يثيرها بعض المستشرقين حول السنّة والحديث، ويجادل المسلمين العصريين الذين يشككون في حجية السنة والحديث، ويدعون إلى الاكتفاء بالرجوع إلى القرآن. وللحديث بقية.