القرية الكونية تزخر بالمعجزات التي حققها عديد من الدول لتصعد بها إلى المراكز المتقدمة في الصناعة والصادرات. فاليابان، التي كانت وما زالت تفتقر إلى الثروات الطبيعية والمواد الأولية من النفط والغاز والفحم، وخسرت معظم مقوماتها في الحرب العالمية الثانية، وأشرف نصف سكانها على الموت جوعا ومرضا، صممت على إعادة بناء اقتصادها ومصانعها لتصبح اليوم دولة رائدة في الصناعة والتقنية والمعرفة.
خلال نصف قرن حققت اليابان عديدا من الإنجازات وكثيرا من المعجزات، لتصبح اليوم ثالث أكبر قوة اقتصادية في العالم، حيث تجاوز ناتجها المحلي الإجمالي في العام الماضي خمسة تريليونات دولار، ما يعادل نصف مجموع الناتج المحلي لجميع الدول الإسلامية، وضعفي الناتج المحلي الإجمالي لجميع الدول العربية.
عندما أجرى خبراء البنك الدولي أبحاثهم حول المعجزة الصناعية اليابانية، اكتشفوا أن أسباب نجاح اليابان في فترة زمنية وجيزة كانت نتيجة تطبيقها أهداف رؤيتها الثلاثة، التي بدأتها بإعادة هيكلة التعليم، حيث ألغت اليابان أساليب الحفظ والحشو والتلقين في مدارسها وجامعاتها واستبدلتها بمبادئ الفكر والمعرفة والابتكار والبحث والتطوير. أما الهدف الثاني، فكان يصب في التركيز على النظام والانضباط، حيث أصدرت اليابان قراراتها الصارمة لتلقين كل من يستهين بالنظام ويتهاون في أداء العمل درسا قاسيا لن ينساه وليصبح عبرة لمن يعتبر. وكان الهدف الثالث من نصيب الصناعة والتجارة والاستثمار، حيث أنشأت اليابان وزارة سيادية مختصة تجمع هذه المجالات تحت سقف واحد، وأطلقت عليها اختصارا اسم وزارة ميتي، وأمرت جميع الوزارات الأخرى بالعمل لمصلحتها ودعم مسيرتها.
وتنفيذا لهذا الأمر تفانت وزارة المالية في جمع الأموال لدعم وزارة ميتي، فتدافعت المصارف اليابانية لتمويل مشاريعها بقروض ميسرة لرفع قدراتها التنافسية، وقامت وزارة التعليم والبحث العلمي بتوجيه مخرجاتها للعمل في منشآت "ميتي"، ووجهت وزارات: الدفاع والداخلية والخارجية جهودها لدعم مشاريع "ميتي" وتسهيل أمورها والدفاع عن مصالحها، وأخذت وزارات: الاقتصاد والتخطيط والإعلام على عاتقها تطوير برامج "ميتي" التنموية والترويج لمنتجاتها في الأسواق العالمية. إضافة إلى ذلك، قامت وزارة القوى العاملة اليابانية بإنشاء معاهد إدارة الأعمال والتقنية لتدريب 40 ألفا من العاملين سنويا في مجالات التطوير الإداري والتقني، ودعمتها بأكثر من 1200 خبير في الإدارة والإنتاج والتسويق والمحاسبة المالية وتقنية المعلومات، ودفعت بخريجيها للعمل في مشاريع "ميتي".
خلال عقد من الزمن حققت المنشآت اليابانية الصغيرة والمتوسطة، التي تعتمد في تصنيع منتجاتها على 86 في المائة من المواد الأولية المستوردة، نجاحات باهرة تحت قيادة وزارة ميتي، لترتفع نسبة مساهمتها في القطاع الخاص إلى 97 في المائة، وازدادت قدرة استيعابها للعمالة الوطنية بنسبة 80 في المائة، وتفوقت نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي إلى 65 في المائة، وقفزت قيمة صادراتها إلى 72 في المائة من مجموع الصادرات اليابانية. ولكون التقنية تلعب دورا تنافسيا بين المنتجات في الأسواق العالمية، لجأت اليابان إلى تطبيق نظرية التفاضل التقني، التي تعتمد على تفوق تقنية المنتجات اليابانية لدى مقارنتها بمنتجات الدول الأخرى في الأسواق العالمية. لذا تبوأت المنتجات اليابانية بجدارة قمة المبتكرات التقنية، وحققت المرتبة الثالثة عالميا في صادراتها الصناعية.
واليوم تفخر اليابان بتحقيق المرتبة الأولى عالميا في معظم الصناعات المعقدة، التي أنشأتها وزارة ميتي. ففي مجال الذكاء الاصطناعي قامت شركات "ميتي" ببناء أسرع حاسوب خارق في العالم بقيمة 170 مليون دولار ليقوم بنحو 130 ألف تريليون عملية حسابية في الثانية، ليحاكي المسارات العصبية في الدماغ البشري ويساعد المصانع على تطوير وتحسين وسائل الخدمات الذكية والتشخيص الطبي.
وفي مجال الروبوتات الآلية حققت اليابان خلال العام الماضي المركز الثاني عالميا بعد الصين في تصدير 25300 روبوت، تلتها أمريكا بعدد 22410 روبوتات، ثم كوريا الجنوبية بعدد 21400 روبوت. كما حققت اليابان المرتبة الأولى عالميا في عدد الروبوتات العاملة في المصانع اليابانية، التي تشكل 323 روبوتا لكل عشرة آلاف عامل، مقارنة بـ 30 روبوتا في الصين، و282 في ألمانيا، و152 في أمريكا.
وفي مجال تقنية النانو، التي اكتشف مبادئها الفيزيائي الياباني سوميو إيجيما عام 1991، قامت وزارة ميتي باستثمار 23 مليار دولار خلال العقد الماضي لتنمية صناعة أجهزتها، لتصبح اليابان اليوم من أكثر دول العالم تقدما في حقول تقنية النانو المختلفة، التي تشمل المعدات الإلكترونية والكهربائية والبطاريات والرقائق متناهية الصغر.
وفي مجال التقنية الحيوية، حققت اليابان المركز الثالث عالميا بعدد أبحاثها بعد أمريكا والصين، وذلك بإصدار 3196 بحثا في العام الماضي، تلتها بريطانيا بعدد 2900 بحث، فنجحت اليابان في تعظيم استفادتها من هذه التقنية لعلاج أمراض القلب والسرطان والشيخوخة وغيرها من الأمراض المستعصية.
واليوم، بفضل وزارة ميتي تعيش الصناعة اليابانية عصر الثورة الصناعية الرابعة، القائمة على الاقتصاد الرقمي والبرمجيات المتطورة والأساليب الجديدة في خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات. وبهذه الخطوات رفعت اليابان قدراتها التنافسية في الصناعات التحويلية من خلال دمج الأنظمة الإلكترونية بعمليات التصنيع والتحكم لإنتاج الأجهزة الذكية بدرجة عالية من الكفاءة.
ونظرا لأن الثورة الصناعية الرابعة تزخر بالإيجابيات، إلى جانب توفيرها فرصا واسعة للمجتمعات البشرية لتحقيق المعدلات العالية من التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية معا، بادرت وزارة ميتي بربط العلوم الفيزيائية والمادية بالتقنية الرقمية والبيولوجية لتخفيض تكاليف الإنتاج وتأمين خدمات النقل والاتصال والجمع بين الكفاءة العالية والثمن القليل واختصار الوقت.
وأصبح نجاح وزارة ميتي في الذكاء الاصطناعي والروبوتات وتقنية النانو والتحكم في الجينات بمنزلة التقدم التقني الذي سيؤدي إلى الثورة الرقمية باستخدام السيارات ذاتية القيادة والطائرات المسيرة دون طيار وبرمجيات التفاعل الرقمية، ليقتصر الدور البشري في الصناعة على المراقبة والتدقيق فقط. طريق اليابان إلى القمة أصبح مليئا بمعجزات وزارة ميتي التي نأمل أن نتعلم منها.