في الوقت الذي نُشرت فيه ترجمة عمر فروخ لكتاب الرئيس الباكستاني الجنرال محمد أيوب خان «أصدقاء لا سادة»، في الوقت الذي لم يكن في اللغة العربية نقد لأفكار المودودي سوى كتاب «المودودي في الميزان في الرد على كتابيه: المسألة القاديانية والبيانات» للمبشر الإسلامي (هكذا عرّف بنفسه!) منير الحصيني الحسيني، صادر عام 1956. والمؤلف من قدامى القاديانيين السوريين، وكتابه مجهول عند كثيرين منا، ومقال نُشر في شهر مايو (أيار) عام 1965 بمجلة «الكاتب» عنوانه «حقيقة مصادر الفكر الإرهابي لجماعة الإخوان»، كتبه جلال السيد بمناسبة قول سيد قطب في محاكمته: «أنا انتفعت بكتب المودودي»، لما سألته المحكمة: «ألم تنقل أفكارك في كتابك (معالم في الطريق)، من مؤلفات أبي الأعلى المودودي؟»، وقوله: «لا فرق»، عندما سألته عن الفرق بين ما ينادي به وما ينادي به أبو الأعلى المودودي. مع الأخذ في عين الاعتبار أن المجلة التي نُشِر بها المقال لا يقرأها إلا الشيوعيون واليساريون في مصر والشيوعيون واليساريون في بعض بلدان المشرق العربي المسموح للمجلة بدخول بلدانهم. والاستثناء الأخير هو كتاب «دعاة لا قضاة»، الذي ألفه بعض علماء الأزهر، ورضي مرشد «الإخوان المسلمين»، حسن الهضيبي، أن يُوضَع اسمه عليه! وهذا الكتاب تم تأليفه بإشراف وتنسيق من قبل أمن الدولة. لكن هذا الكتاب ابتداء من عام 1965 إلى عام الإفراج عن الإخوان المسلمين عام 1971 بتوجيه من الحكومة، كان تداوله محصوراً بين مساجين «الإخوان المسلمين». وطبعه «الإخوان المسلمون» في عام 1976 طبعة محدودة الانتشار.

إن الالتفات إلى نقد أفكار المودودي جاء ابتداء من أول ثمانينات القرن الماضي، وهذا يُعتبَر وقتاً متأخراً؛ فنقدها جاء بعد أن وقع الفأس على الرأس. لهذا لم يُحدِث هذا النقد الأثر المرجو منه.

أهمية نقد الجنرال محمد أيوب خان المجهول عند دارسينا ومثقفينا أنه أتى ضمن تحليل نفيس لمشكلة علماء المسلمين في القارة الهندية عدّد فيها أخطاءهم وعيوبهم، السياسية والآيديولوجية. ومنها النزاع الدائم بينهم وبين الطبقات المثقفة، الذي (كما قال) بلغ ذروته في أثناء الكفاح لإنشاء باكستان. ودعوتهم للأخوة الإسلامية؛ تلك التي رأى أنها مستقبل غامض لا حدود له ولا معالم. رأى أنها هي التي عطّلت نمو الوطنية الإسلامية في شبه القارة الهندية أكثر من كل شيء آخر، ثم عاقت تقدم المسلمين فيها. ومن مجادلاته ضد هذه الدعوة قوله: «فإذا لم تكن للمسلمين قاعدة راسخة في شبه القارة الهندية، فإنهم لا يعدون أن يكونوا حفنة من الفضوليين الذين يتدخلون في شؤون الأقوام الأخرى بحجة الأخوة الإسلامية العالمية؛ فأي نفع يكون منهم حينئذ لسائر المسلمين إذا لم يكن لهم موطن خاص بهم على الأقل؟! إن أولئك الذين كانوا يرون أن الاستشراف القومي كان مناقضاً لنظرية الأخوة الإسلامية العامة كانوا في الحقيقة كأنهم يقولون إن المسلمين في شبه القارة الهندية يجب ألاّ يكون لهم موطن خاص بهم، لأن لهم مواطن كافية في جميع أنحاء العالم».

وأهمية نقده للمودودي أنه نقد عميق ونافذ وجوهري، وأن ما قاله في نقده له ولعلماء الهند ينطبق تماماً على الحركات الإسلامية في العالم العربي. ولهذه الأسباب وجب إذاعة نقده وإشهاره.

يقول محمد أيوب خان: «إن نفراً من علماء الدين القوميين (العلماء القوميون - كما يوضح مترجم الكتاب عمر فروخ - هم أنصار حزب المؤتمر الوطني الهندي، والمناهضون لحزب الرابطة الإسلامية الداعي لإنشاء وطن خاص بالمسلمين في القارة الهندية) هؤلاء قرروا البقاء في الهند، ثم خف نفر آخرون منهم مسرعين إلى باكستان ليمدوا يد المساعدة إلى أهلها؛ فإذا لم يكونوا قد استطاعوا أن ينقذوا المسلمين من باكستان، فعليهم الآن أن ينقذوا باكستان من المسلمين. من هؤلاء المهاجرين المستر أبو الأعلى المودودي رئيس الجماعة الإسلامية الذي كان يعارض إنشاء باكستان معارضة شديدة. لقد لجأ إلى باكستان ثم ما برح أن قام بحملة لنشر الدعوة الإسلامية بين الشعب الباكستاني السيئ الطالع. فلقد هال هذا السيد الوقور ما شاهده في باكستان: بلد غير إسلامي وحكومة غير إسلامية وشعب غير إسلامي! كيف يسوغ للمسلم أن يدين بالولاء لهذه الدولة؟! وهكذا شرع يُدخِل في روع الناس أنهم ضالون مارقون عاجزون، لا أمل فيهم ولا رجاء. كل ذلك في الواقع واجهة براقة، أما القصد الحقيقي فكان رد السلطة السياسية إلى علماء الدين وتأكيد حقهم في زعامة الأمة. وبما أن حركة باكستان كان يقودها رجل (يعني بالرجل هنا محمد علي جناح) هو مثال الثقافة الغربية، فإنَّ وجاهة علماء الدين قد أصيبت (من أجل ذلك) بجرح عميق. من أجل ذلك جعل رجال الدين يحاولون استعادة مكانتهم».

إنَّ الفارق بين تجربة القارة الهندية مع الحركة الإسلامية وتجربة البلدان العربية مع هذه الحركة، هو أن المشكلة في التجربة الأخيرة لم تكن من رجال الدين بقدر ما كانت من أبناء الحركة الإسلامية، أو بتعبير آخر من أبناء المودودي. ونستثني من هذه البنوة الفكرية حسن البنا. لأنه لم يتأثر بالمودودي؛ فهو كان صنوه ونظيره المصري، وإن كان أقل منه كثيراً من ناحية الكفاءة الثقافية والمقدرة التنظيرية.

مما لمسته من مقدمة عمر فروخ لترجمته لكتاب «أصدقاء لا سادة»، فإن موقفه من دولة باكستان الناشئة قد طرأ عليه تغير؛ فهو لم يعد يبشر بها بسذاجة دينية (كما في كتابه «باكستان دولة ستعيش») بأنها دولة الغد!

في حديثي عن الشخصيات التي لها صلة بمشروع ترجمة كتاب محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق»، وهي الآتية أسماؤهم: مصطفى الخالدي ومحمد أمين تلحوق وخليل وأكد حمادة، وعن مترجمه عمر فروخ، كنت أعلنت أنني لم أعثر على أي معلومة عن السيد خليل واكد حمادة، ومع هذا حدست بأنه من عائلة حمادة الدرزية. وقد أكد لي الطبيب في المستشفى العسكري بالرياض صالح سعيد حمزة صحة حدسي. وذكر لي أنه ذو اتجاه عروبي وإسلامي، لكنه لم ينتمِ إلى حزب سياسي في لبنان طيلة حياته. وأخبرني أنه درّسه في المدرسة الابتدائية اللغة الإنجليزية في خمسينات القرن الماضي.

وزيادة في التعريف به، قال: «وُلد في بعقلين سنة 1883. وأخذ دروسه الأولية في المدارس المحلية. وتعلم العربية على نسيبه فرحان بك حمادة ثم انتقل إلى عبيه حيث أكمل دروسه فيها. لينتقل بعدها مع سعيد محمد حمادة إلى الجامعة الأميركية في بيروت. ونال وظيفة في ملاك الجامعة المذكورة لفترة من الزمن. وما لبث أن انتقل إلى طرابلس بتكليف من الإنجليز، ثم عاد لينال وظيفة مترجم في السفارة البريطانية. وكان مدرساً للغة الإنجليز في المدرسة الداودية. ويتمتع بشخصية جدية لا تقبل الزلل. صادق القول. مستقيماً في علاقاته. توفاه الله عازباً سنة 1969».

بعد أن فرغنا من تقديم المعلومات التي تحف بملابسات ترجمة كتاب «الإسلام على مفترق الطرق» إلى العربية، يمكن أن نسجل الملحوظات التالية: إن الإسلاميين العرب كانوا يجهلون هذا الكتاب. والذين كان لهم فضل تقديمه لهم هم أولئك الأربعة، وعلى رأسهم مصطفى الخالدي. إن عمر فروخ لم يختر ترجمة الكتاب. فترجمته له كانت استجابة لرغبة صديقه مصطفى الخالدي.

في العقد الذي صدر فيه هذا الكتاب، وهو عقد الثلاثينات، والعقد الذي ترجم فيه هذا الكتاب، وهو عقد الأربعينات، لم يكن بوسع الإسلاميين العرب ترجمته إلى العربية، لأنهم لا يتوفرون على مترجمين محترفين سواء من الإنجليزية أو من لغات أخرى.

قول مؤلف الكتاب، محمد أسد، في مقدمة الكتاب في صورته المنقحة والمعدلة: «إن وقع الكتاب على الطبقة المثقفة في الشرق الأوسط أكبر مما أحدث الأصل المكتوب باللغة الإنجليزية»، هو قول غير دقيق، إلا إذا كان يعني بتلك الطبقة أصحاب الاتجاه الإسلامي الحركي، وذوي الاتجاه الديني العام. فالطبقة المثقفة بمعناها العلماني في تلك المنطقة لم تكن معنية بكتابه. وكتابه ليس له أي حضور في أدبياتها لا بالسلب ولا بالإيجاب.

إن أثر الكتاب في مصطفى الخالدي ومحمد أمين تلحوق وخليل واكد حمادة وعمر فروخ، لم يكن بقدر أثره على مثقف كسيد قطب، الذي بسبب هذا الكتاب وكتاب آخر لمولانا محمد علي «الإسلام والنظام العالمي الجديد» اتجه إلى إسلام أصولي متشدد. وللحديث بقية.