يكاد يُجمِع العالم على أن لا مجال لاحتفاظ الرئيس دونالد ترامب بالبيت الأبيض لولاية ثانية، إنما هذا لا يُطبَّق على جزء كبير من الـ71 مليون شخصاً انتخبه أو على ترامب نفسه، وبالتالي الأرجح ألاّ تنتهي رئاسته الفعلية قبل 20 كانون الثاني (يناير) المقبل سوى بقدرٍ لا يُستهان به من المفاجآت. لذلك عادت القيادات العالمية الى طاولة الحسابات لتقدِّر كلفة مواقفها ولتقرأ بين سطور ما قد تتخذه إدارة ترامب من إجراءات قد تُكبّل إدارة الرئيس المفترض جو بايدن، وفي طليعتها إيران.

الصين تتأهّب لنقلةٍ ليست بالضرورة نوعية. روسيا تراقب بحذرٍ وهي تقلق مما قد تفعله إدارة بايدن أكثر من قلقها من مفاجآت إدارة ترامب. أوروبا تلبس ثوب العيد احتفاءً ببايدن لكنها ترتجف بإزاء مجرّد التفكير، إما بإجراءات ترامب قبل تسليمه البيت الأبيض أو بعقابه لها إذا بقي رئيساً. الدول العربية منقسمة الى معسكرٍ يحتفي بالتخلّص من ترامب ومعسكرٍ آخر يخشى عودة فريق الرئيس الأسبق باراك أوباما الى صُنع السياسة الخارجية الأميركية المتراخية مع إيران والمتشدّدة مع الدول الخليجية العربية. أما الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإن الجناح المتشدّد فيها يتخبّط بين تجنّب الاستفزاز خوفاً من إجراءات إضافية انتقامية يخشى أن تشمل عملية عسكرية ضد مواقع أميركية، وبين عدم التحرّك بإزاء وضوح عزم إدارة ترامب على تقييد أيادي إدارة بايدن بعقوبات كي يكون مشوار العودة الى الاتفاقية النووية JCPOA مكبّلاً بالعراقيل والشروط التعجيزية.

كل المؤشّرات تفيد بأن إدارة ترامب ستصعّد العقوبات على إيران وحلفائها وأدواتها ليس في الملف النووي وإنما في ملفات الصواريخ، ودعم الإرهاب، والتسلّح، والاضطهاد الداخلي. والسبب هو أن في وسع إدارة بايدن إلغاء العقوبات إذا ارتبطت بالملف النووي عندما يعيد إحياء الاتفاقية النووية. أما العقوبات الأخرى، لا سيما تلك التي دعمها الكونغرس وأصدر تشريعات نحوها، فإنها تُكبّل أيادي بايدن وتجعل شبه مستحيل له استئناف العلاقات الأميركية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية كما كانت عليه في زمن إدارة أوباما.

زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو وقبلها زيارة المبعوث الأميركي المكلّف ملفَّي إيران وفنزويلا اليوت أبراهامز الى منطقة الشرق الأوسط ليست بعيدة من هذه الأجواء. الهدف الرئيسي هو استكشاف مدى جاهزية الدول المعنية لهضم أولاً، المزيد من العقوبات على إيران، وثانياً، توجيه إدارة ترامب ضربة عسكرية على مواقع إيرانية قبل تسليمها السلطة الى بايدن - إذا سلّمتها. ففي رأي إدارة ترامب، أن الوقت ما زال يُتيح لها شن مثل هذه العملية. وهي ترى أن هناك حاجة الى إجراءات استباقية لمشروع بايدن بالعودة الى الأحضان الإيرانية، بحسب رأيها. إسرائيل مهمّة جداً في هذا المسعى، وكذلك دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط قد تتأثّر جذرياً بإعادة عقارب العلاقات الأميركية - الإيرانية الى ما كانت عليه في عهد أوباما - بايدن. لذلك فإن زيارة بومبيو تشمل الى جانب فرنسا وجورجيا كلاً من إسرائيل وتركيا والإمارات والسعودية وقطر. هدفها بالدرجة الأولى هو احتواء أي شغفٍ لدى فريق بايدن للقفز بابتهاج الى إحياء الاتفاقية النووية.

إنما ليس مؤكداً أن فريق بايدن جاهز للقفز العشوائي الى إعادة تبنّي الاتفاقية النووية، بالرغم من المؤشرات التي بعثها بعضه الى طهران بأن هناك استعداداً للقاءات واتصالات بين إدارة بايدن والحكومة الإيرانية - مع عدم وضوح أي شطر منها: معسكر الحكومة المدنية برئاسة حسن روحاني أو العسكرية منها التي تتولّى السياسة الخارجية الإقليمية والتي يمثلها "الحرس الثوري" الإيراني. ذلك أن كلام فريق بايدن عن "الامتثال" الإيراني يزداد، وما قاله طوني بلينكن، نائب وزير الخارجية السابق في عهد أوباما، حول استخدام اتفاقية JCPOA "كمنصة، سويّةً مع شركائنا ومع حلفائنا" من أجل "التفاوض على صفقة أطول عمراً وأقوى" إنما هو مثير للانتباه.

الدول الأوروبية بمعظمها متحمّسة جداً لرئاسة بايدن لأنها تزيل التوتّر في العلاقة الأميركية - الأوروبية وفي صفوف حلف شمال الأطلسي التي ترى أن دونالد ترامب مسؤول عنه. إنما هناك شوط قطعته الدول الأوروبية في اطار مواقفها من إحياء الاتفاقية النووية بات ينطوي، فعلياً وعملياً، على إعادة التفاوض على الاتفاقية النووية JCPOA بما يشمل الصواريخ والسلوك الإقليمي. بكلام آخر، إن المطروح هو التفاوض على اتفاقية جديدة وليس مجرد إحياء الاتفاقية التي وقّعتها إدارة أوباما وبريطانيا وفرنسا وبريطانيا والصين وروسيا عام 2015. وكذلك الكونغرس الأميركي بشقّيه الديموقراطي والجمهوري، فهو أيضاً ليس مستعداً أو جاهزاً لتبنّي الإحياء التلقائي لتلك الاتفاقية. فريق بايدن يدرك ذلك. إنما فريق ترامب لا يثق بذلك الإدراك وهو مصّر على تطويقه مسبقاً.

السفير الألماني السابق لدى الرياض وواشنطن ونائب رئيس "مؤتمر ميونيخ الأمني"، بوريس روج، قال أثناء مشاركته في الحلقة المستديرة الافتراضية الـ22 لقمة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي (https://m.youtube.com/watch?v=hrJM1d-eiHM) إن "على إدارة بايدن ألا تبدو متساهلة أو ليّنة مع إيران، فيما الكونغرس الأميركي - بما فيه الديموقراطيون - انتقد انتقاداً شديداً حينذاك اتفاقية JCPOA ولم يدعمها بالضرورة". وأضاف أن "هناك مساحة للأوروبيين لضمان استمرار الاتفاقية ريثما تدقّق الولايات المتحدة في خياراتها إنما مع التواصل الأميركي مع الأوروبيين للتطرق الى مختلف أوجه السلوك الإيراني الذي يثير المشكلات".

اللافت في الأمر هو الرأي الروسي بعزم إدارة بايدن على إحياء اتفاقية JCPOA. فيودور لوكيانوف، مدير البحوث في نادي فالداي valdai ورئيس هيئة مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسية الذي شارك في الحلقة المستديرة عبّر عن مخاوفه من استبعاد روسيا عمداً عن مفاوضاتٍ أميركية - إيرانية حول إحياء اتفاقية JCPOA. وقال إن "لا مجال اطلاقاً للعودة الى الصفقة كما كانت عليه عام 2015. بالطبع ستحاول الولايات المتحدة وإيران التفاوض على شيء جديد. وسيكون لافتاً جداً أن نرى إنْ كانت روسيا ستُدعى للمشاركة أم لا. فأنا لا اعتقد أن إدارة بايدن ستكون متحمّسة لذلك". وأضاف: "أن الإيرانيين قد يحبّذون أن ينخرطوا بصورة أقرب ومكثفة أكثر مع إدارة بايدن متوقعين أن - في مرحلة ما بعد ترامب ونظراً لما عبّر عنه بايدن مرات عدّة حول أداء مختلف عن أداء ترامب - أن إدارته ستكون مستعدّة لاتخاذ مواقف مختلفة". وقال أيضاً، إن بين روسيا وإيران "الشراكة مضطربة troubled... وهي علاقة معقّدة". إنما "عندما يتعلق الأمر بالمصالح المتطابقة، تتوصل روسيا وإيران الى وسائل لضمانها".

لافت أيضاً ما قاله الأمير حسن بن طلال، رئيس ومؤسس "منتدى الفكر العربي" أثناء مشاركته في الحلقة التي ضمّت أيضاً بول برينكلي، المدير العام لشركة "سيربيروس كابيتال" والنائب السابق لوكيل وزارة الدفاع الأميركية. قال الأمير حسن في معرض الكلام عمّن يشارك أو لا في مفاوضات مستقبلية بين الولايات المتحدة وإيران إن "من الضروري أن يتلقى العرب - أقلّه كأية قومية أخرى في المنطقة - نوعاً من المؤشر على ماذا يُبحَث وعماذا يتحدّث في شأنه أعضاء مجلس الأمن في الأشهر القليلة المقبلة، للبدء بالتفكير معاً".

بول برينكلي توقّع "أن تُغيّر الإدارة الجديدة نغمتها فوراً وأن يكون هناك تحوّل فوري. فهناك عدد كبير من قادة الإدارة الجديدة كانوا لاعبين أساسيين في خلق اتفاقية JCPOA، وبالتالي لديهم التعاطف الطبيعي مع إحيائها". لكنه أضاف: "إنما التحدي للجميع يكمن عند النظر في سلسلة التصعيد والأفعال المخيّبة داخل النظام، وازدياد قوّة العناصر المتطرّفة داخل النظام والتي ستجعل من الصعوبة البالغة إعادة عقارب الساعة الى الوراء".

في وسع فريق بايدن أن يستفيد من تركة فريق ترامب من أجل المصلحة الأميركية القومية كما من أجل أوراق التفاوض مع إيران ومع الصين وغيرهما. رئاسة بايدن لن تتمكن من الطلاق التام مع سياسة ترامب في ما يخص الصين، وبحسب المعلومات، فإن خبراء فريق بايدن استنتجوا التالي: أولاً، يجب ألا يطرأ تغيير راديكالي على العلاقة وإنما يجب تخفيض نسبة التوتر السياسي والعسكري. ثانياً، يجب على بايدن استئناف المفاوضات التجارية والحوار إنما شرط ألا يكون في عجلة من أمره. ثالثاً، يجب التركيز على مسألة خروق حقوق الإنسان إن كان في هونغ كونغ أو معسكرات الاعتقال. رابعاً، تعيين مبعوث أميركي خاص مكلّف ملف الصين كي لا يبقى الحوار مرتبطاً حصراً بلقاءات القمة بين الرئيسين.

ما سيرثه بايدن من ترامب هو رزمة كبيرة من العقوبات الأميركية القاسية على الصين بسبب هونغ كونغ - الأمر الذي سيصعب على بايدن تجاهله. سيرث أيضاً رزمة عقوبات معقدة ومتراكمة على إيران وشركائها، مالية وعلى أفراد وفي إطار تصدير النفط وعقاباً على صفقات السلاح، كما سيرث حشداً جدّياً للجمهوريين ولإسرائيل بهدف زجّه في الزاوية عند تعامله مع إيران.

قد يستفيد جو بايدن من هذا الإرث إذا أحسن البناء عليه لتحسين أوراقه التفاوضية مع الصين ومع إيران كما مع روسيا، وكذلك في إطار العلاقات الأميركية مع الدول العربية - من منطقة الخليج الى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. لعلّ في ذهن فريق بايدن، مثلاً، التمييز بين ما قامت به إدارة أوباما في سوريا وما ستقوم به إدارة بايدن هناك. هذا يتطلب التدقيق بفوائد سياسات ترامب والبناء عليها مثل فرض العقوبات على القيادة السورية بموجب قانون قيصر وقانون ماغنيتسكي مع حشر روسيا في "خانة الييك" والضغط على "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" اللبناني في الساحة السورية.

كذلك في ما يخص لبنان، الأرجح ألاّ يسرع فريق بايدن الى الانحراف عن مسار فرض العقوبات على مسؤولين لبنانيين بتهمة التورط في الفساد المتفشي أو بتهمة تأمين الغطاء الى "حزب الله" ليهيمن على البلاد. هذه سياسة الدولة الأميركية والإجراءات تُتخذ على أساس قوانين شرّعها الكونغرس الأميركي.

أخيراً، من الضروري لفريق بايدن ألاّ يسمح بتكرار تلبية إصرار إيران على استثناء سلوكها الإقليمي عند البحث في إحياء الاتفاقية النووية بحجة أن الأمرين منفصلين. لا، انهما مرتبطان جداً وهذا ما أثبتته السنوات الخمس الماضية وأثبتت كذلك فشل رهان إدارة أوباما على تغيير في سلوك إيران الإقليمي نتيجة الاتفاق النووي، بل أثبتت أن الإفراج عن الأموال مكّن "الحرس الثوري" الإيراني في العراق وسوريا واليمن ولبنان وترك وراءه إرثاً دموياً ومزرياً.