“أكاد أكمل مئة سنة، وقد رأيت كل شيء يتغير، بما في ذلك مواقع الكواكب في الكون، ولكنني حتى الآن لم أرَ شيئاً يتغير في هذه البلاد. فهنا توجد دساتير جديدة وقوانين جديدة وحروب جديدة كل ثلاثة أشهر. لكننا ما زلنا نعيش في الزمن الاستعماري”.
غابرييل غارسيا ماركيز

تكاثرت في الآونة الأخيرة اتهامات الخيانة يتبادلها السياسيون، كلما عَصي أو صعب عليهم تبادل التمنيات أو التحيات. وقد تذكَّرنا حالة مشابهة أوائل الحرب، عندما علّق القيادي الفلسطيني أبو أياد على تلك المبارزات بالقول: “اعتقد أنهم جميعاً على حق”.

في بلدان البشر تُعتبر الخيانة آخر التهم، أما هنا فقد وجَّهها الرئيس الفرنسي #ايمانويل ماكرون الى جميع السياسيين، وما اعترض أحد. ولا كان في هموم أحد ان القائل قادم من بلاد الماريشال بيتان، الذي ترفض فرنسا، حتى اليوم، ان تغفر له التعامل مع النازية بحجة إنقاذها. كل ما فعله بطل فردان السابق آنذاك، أنه فسَّر للجهلة معاني الحالات الخيانية الثلاث وأسبابها، باعتباره ركناً من أركان الدفاع عن المسيحية التي لم تعد تعرف على يد مَن سوف تُنقذ. لكن فاته تفسير غابرييل غارسيا ماركيز، الذي روى في “الحب في زمن الكوليرا” ان لعنة الله حلّت على الديوك بسبب ديك القديس بطرس. غير ان معلم وزير الاشعاع والنور صحح له (ولنا) فوراً انه ليس مجرد مسيح في #لبنان، هذه البقعة الصغيرة، وإنما هو حامل صليب الشرق، دون تحديد، الاوسط أو الادنى.

ما من تواضع يتسع للفرد اللبناني، لذلك، يضم المسيح يسوع بن مريم الى ما يقتني، والشرق الى ما يكتري، ولا يرتضي بأقل من اميركا خصماً.

في انغماسه بالقضايا الكبرى، مثل المسيحية في الشرق، تغيب عن باله القضايا الفرعية، مثل المسيحيين في المرفأ والبحر وما وراء البحار، ومثل كل رقم آخر، يتحول عدد المهاجرين والمشردين والراقدين تحت التراب إلى مفردة احصائية، مثل الهندسات المالية، وسعر الدولار الموازي لسعره مزوراً، ومجموعة نثريات أخرى، كنسبة البطالة والفقر والمتسولين.

من الصعب تعريف الخيانة أو تحديدها، لكثرة ما تشمل وتغطي من مناحي الحياة البشرية، وفي لبنان هي أقرب الى العادة. أو أحياناً الى الطبيعة. فالمصرفي الذي يغريك بنقل حسابك من الخارج، وهو عارف تماماً بالمصير، لا يعتبر أنه ارتكب خيانة في حقك عندما يفرك يديه – غير معتذر – حين تذهب إليه بعد شهر مستفسراً عما جرى. الجواب في مرفأ 4 آب. وكذلك سائر الأجوبة.

قرّاء “مدام بوفاري” التي اعتبرها بعض نقّاد العصر، التحفة الروائية الأولى، التهوا جميعاً بخياناتها، من دون تحميل أي مسؤولية للمسيو بوفاري. لم يعتبر المسيو بوفاري ان نزوات ايما تعنيه ما دامت لا تعكر مزاجه ولا تؤثر في عمله. لا شيء يحرك شعرة في كرامة شارل بوفاري. فعندما كان تلميذاً صغيراً طلب منه المدرّس ان ينسخ على اللوح عبارة “أنا تافه”. وقام شارل الى اللوح، فنسخ وعاد الى مقعده من دون ان يتذمر بكلمة واحدة. لقد اصبح لدينا ايما بوفاري في الدرجة الأولى، بسبب شارل بوفاري. تهورها وعدميته. وفي النهاية لا يعود في إمكان المرأة المسرفة في كل شيء، ان تسدد ديونها، فتنتحر. ومثل بيلاطس لا يكون شارل بوفاري مسؤولاً.

يقول فيليب روث في “كنت شيوعياً” انك “تتعود على أن تتعرض للخيانة. الخيانة هي التي تجعلك كذلك. تذكَّر الأعمال الدرامية المأسوية. ما الذي يستجلب الكآبة والهذيان وسفك الدماء؟ عُطيل تعرّض للخيانة، وهاملت والملك لير”. ويرى روث ان التاريخ كله مليء بالخيانات. والخيانة هي القضية الأولى في الكتاب المقدس: موسى ويوسف والمسيح. وكذلك شمشون، الذي كانت قوته في جدائله، فلما غافلته دليلة (ليس موضّحاً إن كانت سيدة أم آنسة)، خرجت قوته من أطرافها، وهات يا هياكل ويا أعمدة.

الخيانة في لبنان ليست تهمة، إنها مهرجان. وقد كتب فؤاد كنعان صاحب “قرف” في لحظة تقزز مما يرى: أهذه جمهورية يا ماري لو؟ هذه معرسة في الهواء الطلق”. وعذراً من عذارى لبنان، لكن أسماء الدلالة لا تعدل وإلّا فقدت غايتها اللغوية. وجلّها يبدأ بحرف الميم: محاصصة، مداورة، ومجرسة.

عندما قال يسوع لبيلاطس”جئت لكي اشهد على الحقيقة”، قال له الوالي الروماني “وما هي الحقيقة”؟ إنها ما يراه، وما كلف به، وما أصبح قائداً من أجله. فلو كان يرى الحقائق كما هي لكان نجاراً في الناصرة، أو بلا بيت في الجليل ينام عند تلاميذه، الذين خانه ثلاثة منهم، كما خان بعضهم حامل صليب الشرق.

لا أحد يريد الحقيقة. لا نريد شيئاً أكثر مما يطمح اليه أهل الكهف: ماء وكهرباء وخبز ومازوت، للقادرين على شرائه. ونريد ان نبرق اليكم جميعاً مهنئين بالخجل من الاحتفال بعيد الاستقلال. هذا أخيراً شيء مفرح. الامتناع عن الدعوة السنوية الى البكاء وتلاوة صلاة الغائب، تحت اسم مستعار.

أتساءل أحياناً، في عذاب حقيقي، وأنا أسمع – مرغماً – لغة الجراثيم والذباب الالكتروني الذي تعبّئه الذبابة الأم، هل هي مجرد مصادفة قدرية انّ أجمل ما حدث لنا في المئوية المنصرمة، ليس لبنانيَّين: الكلداني ميشال شيحا القادم من العراق، والسريانية نهاد حداد الآتية من ماردين؟ وكل سنة وأنتِ بخير وبركة وهالة.

عندما تقرأ خواطر ميشال شيحا السامية والمكتوبة بأسلوب السماء وروحية الملائكة، أو عندما تسمع فيروز تغنّي من فوق جميع أصوات الأرض، ألا تتساءل، كيف استطاع الغريبان ان يقيما هذا اللبنان المتجلّي، في هذا اللبنان المقبوض عليه بسلاسل الثرثرة الفارغة والعاديات السقيمة وسمسرات التافهين؟

إنني اعتذر – إذا اضطررت – عن خيانة دائمة. أنا لم اشعر يوماً بالانتماء الى ايّ لبنان من هذه اللبنانات التي تداولتها الأيام. أنا كان لبناني دائماً، ما أقامه الغريبان فوق أرضي. ولا شعرت بولاء لأحد لم يكن في قامة لبنان. ولا خدعتني يوماً دمى قراقوز وعيواظ. منذ البداية، اخترت من كل هذه العروض، لبناناً أحبه وأنتمي إليه واطمئن الى انسجامه مع حياتي كإنسان ضعيف وأعزل، وعقيدتي هي الحرية. أمضيت أيام العزل في باريس أقرأ “ضيفُ آل مديتشي” للكاتبة والمؤرخة الفرانكوفونية كارول داغر. ما أجمل هذين اللبنانيَّين، فخر الدين (1) وراويته. ولا تزال قصة الأمير المعني أحجية من أحاجي الشجعان والعبقريات. من مغارة نيحا الى قصور توسكانا، الى حملته على العثمانيين الذين كاد يُلحق بهم الهزيمة، لولا الخيانات. ما كان أسعدنا اليوم لو قدِّر لفخر الدين ان يقيم امارته على اسس الجمال والثقافة والمدنية، بدل ان نصل الى وقت نُلحِق فيه وزارة الثقافة بوزارة الزراعة. اندريه مالرو في خشاية التبن والعَلف.

تلك هي الحكومة التي شُكلت لإنقاذ لبنان والتجاوب مع مطلب #الثورة ونزول نحو مليون شخص الى الساحات (الشوارع نتركها لكم). صححت السلطة الرقم: هم 150 ألفاً بأقصى تقدير. هل يُخيل اليك ان سلطة في العالم، تزدري باحتقار أعداد 150 ألف متظاهر؟ أنا، من جهتي، لم أفاجأ. السلطة التي تضع قانوناً وتسميه تفضيلياً (أي مضاداً للقانون) وبموجبه يفوز الأفاضل الأفضليون بـ 80 صوتاً و200 و700 وما أشبه، لا ترى في تجمّع 150 ألف إنسان سوى رقم مُحتقَر غير تمثيلي. ولأن هذه نظرتها الى البشر، لن ترى في أرقام المرفأ وكوارثه سوى توقيف مدير الجمارك. ولن ترى في خراب المصارف والبيوت والعائلات والنفوس والقلوب والأرواح، ما يستحق استقالة أحد. وإلا فما هو مقياس القوة والشجاعة والثبات. أول مرة تفصل الديموقراطية بين صوت عادي وصوت مفضل. وشعب يفضل قراءة الذباب على ميشال شيحا، ولا يعتبر نفسه مسؤولاً عن خياراته. ما خلّوه.