علما بأن النهضة الاقتصادية الصينية في العقدين الماضيين تبدو محاطة بمجموعة من الأساطير المبالغ فيها، إلا أن النجاح الذي حققه المارد الشيوعي على حساب الدول الرأسمالية يدعونا إلى إعادة التفكير في كيفية الاستفادة من الحكمة الصينية التي نجحت في مواجهة تيارات العولمة في نادي الأغنياء، وحققت معجزة اقتصادية باهرة، أدت إلى صعود الصين للمراتب العليا عالميا، وحازت احترام الشعوب كافة، الغنية والفقيرة معا.
النهضة الاقتصادية الصينية تأتي اليوم نتيجة استفادة المارد الشيوعي من انضمامه إلى منظمة التجارة العالمية في نهاية عام 2001. خلال العقد الماضي حاز الوفد الصيني في المنظمة أفضل نسبة مشاركة بين 164 دولة في اجتماعات المنظمة، حيث شارك في 6450 اجتماعا تفاوضيا، وناقش 65 ألف ورقة رسمية، وقدم 312 إشعارا، إلى جانب طرح 27 مبادرة تجارية جديدة، ليصبح الوفد الصيني مثالا يحتذى به في نادي الأغنياء.
وعلى عكس توقعات الدول الرأسمالية، نجحت الصين في تخفيض نسبة الفقر في صفوف مجتمعاتها من 73 إلى 32 في المائة، وحققت الاستثمارات المباشرة المتدفقة لأسواق الصين أعلى النسب في العالم، لتسهم في إيجاد 100 مليون وظيفة عمل جديدة و100 مليون وظيفة أخرى جاهزة لاستقطاب خريجي الجامعات الصينية في العقد المقبل. وبناء عليه حصل القطاع الصيني الخاص على 66 في المائة من الوظائف الجديدة المستحدثة، ليسيطر على 70 في المائة من الاقتصاد المحلي، و60 في المائة من نمو الناتج الإجمالي.
هذه النتائج الباهرة أسهمت في زيادة نسبة النمو السنوي الحقيقي للاقتصاد الصيني إلى 9 في المائة على مدى خمسة أعوام متتالية، إضافة إلى تفوق المارد الشيوعي في زيادة المحتوى المحلي لمنتجاته لتصبح أسواق الصين مركزا واعدا لصناعة الطائرات والسيارات والأجهزة والمعدات والقاطرات والمنسوجات والملابس.
قبل انضمامها إلى المنظمة، لم تكن لدى الصين سوق حرة حقيقية، حيث كانت الحكومة تسيطر على معظم الأنشطة التجارية، وتتحكم في القطاعات المصرفية كافة، وتمنع استخدام المبتكرات المالية الائتمانية، وتفرض المديرين على المؤسسات والشركات وتتدخل في تحديد الأسعار. إلا أنه وسط استغراب علماء الاقتصاد وخبراء التجارة الحرة لجأت الصين فور انضمامها إلى المنظمة، إلى تعديل سياساتها الاقتصادية، وبدأت اعتماد نظام مالي صارم، ومنحت قطاعها الخاص سيطرة أكبر على قطاعاتها المصرفية وتدخلا مباشرا في إدارة أعمالها التجارية.
ولم تتأخر الصين في إعادة هيكلة قطاعها الصناعي الذي تسيطر عليه الدولة، فأعادت تأهيل 50 مليون عامل وموظف، ووفرت السكن بأسعار متدنية لجميع عمال وموظفي القطاع الخاص ومنحتهم فرصة الاستثمار في مؤسساتها التجارية الحكومية، ما أدى إلى تعزيز مستوى الطبقة الوسطى في المجتمع الصيني.
قبل 30 عاما، كانت نسبة دخل الفرد الواحد من الناتج الصيني الإجمالي لا تزيد على 500 دولار، وكان 30 في المائة من سكان الصين يعانون الفقر والجوع والمرض. واليوم فاق دخل الفرد ثلاثة آلاف دولار، ليعيش 97 في المائة من أفراد المجتمع في حال أفضل من أقرانهم في بعض الدول الرأسمالية.
وخلال العقد الماضي حقق الاقتصاد الصيني نتائج باهرة، خاصة في معدلات النمو الحقيقي، وجذب الاستثمار الأجنبي، وامتلاك ثاني أكبر احتياطي نقدي بالدولار الأمريكي، وصل في العام الجاري إلى أكثر من ثلاثة تريليونات دولار، كما أصبحت الصين أكبر منتج للفحم والحديد والأسمنت فى العالم، وثاني أكبر مستهلك للطاقة، وثالث أكبر مستورد للنفط.
اليوم تفتخر الصين بأن لديها نصف مليون خبير وعامل صيني يعملون في مشاريع ينفذها أكثر من 390 ألف شركة صينية في 170 دولة حول العالم. كما تحتفل الصين اليوم بجذب 35 في المائة من الاستثمارات الأجنبية في العالم من خلال استثمار 400 شركة عالمية في أسواقها، تصنف من ضمن أكبر 500 شركة في العالم.
واليوم تحقق الصين نموا مطردا في الصادرات بنسبة 20 في المائة سنويا، لتصعد إلى المرتبة الأولى في صادرات السلع بين دول العالم، وتستحوذ على 32 في المائة من واردات الأسواق الأمريكية. وأدى ذلك إلى زيادة العجز التجاري الأمريكي مع الصين بنسبة 800 في المائة، حيث ارتفع هذا العجز من 104 مليارات دولار عام 2001 إلى 838 مليار دولار في العام الماضي، علما بأن الصين التزمت بفتح أسواقها أمام صادرات الدول الأعضاء في المنظمة، وقامت بتخفيض الرسوم الجمركية على وارداتها من 221 إلى 17 في المائة.
ورغم جائحة كورونا توقعت وكالة بلومبيرج، في تقرير لها الشهر الماضي، أن ينمو الاقتصاد الصيني بمعدل 5.5 في المائة عن الفترة نفسها من العام الماضي، ليستعيد كل المكاسب التي خسرها من جراء الانكماش القياسي في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، ليقفز الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى سبعة تريليونات دولار، متفوقا بحجمه على مجموع مثيله في دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. ولمواكبة هذا النمو، ستلجأ الصين خلال العقد المقبل إلى استيراد نحو عشرة ملايين برميل من النفط، و30 في المائة من الغاز العالمي يوميا، ما سيزيد الطلب على الطاقة بنسبة 8 في المائة من إجمالي الطلب العالمي.
هذه النجاحات أصبحت دليلا واضحا على قدرة الصين على التعامل مع تيارات العولمة في نادي الأغنياء، فقامت بتنفيذ خططها التنموية بدقة متناهية واعتمدت على بناء قاعدة اقتصادية محكمة ومرنة، وثابرت لتسخير مزايا نشاطها الرأسمالي لتحقيق أهدافها دون التخلي عن سياستها الاشتراكية.
ولم يأت نجاح الصين في ميدان العولمة وتحقيق أهدافها في اكتساح أسواق الدول الغنية محض مصادفة أو من خلال انتظار طفرة واعدة، بل جاء نتيجة حتمية لمهارة الصين في تحديد أهدافها التنموية، وتسخير مزاياها التنافسية، وإحكام قبضتها على مبادئ العولمة من خلال مشاركتها الفعالة في محفلها للاستفادة من أحكامها وتحييد عشوائياتها.
تقول الحكمة الصينية: "ليس المهم أن يكون لون القط أسود أو أبيض، المهم أنه يلتهم الفئران".