لمحات
«استوى الإيقاع شكلا مركزيا في المدونة النقدية الحديثة منذ اتخذت القصيدة شكلا مرئيا جديدا نتج عن خلخلة البنية الثنائية للبيت التقليدي، وأضحى للشاعر حق التصرف في عدد التفعيلات المشكلة للبيت الحر تماشيا مع مقتضيات المعنى والعبارة»
( أحمد الكوكي)


جماعة أبوللو والتي ذكرت بأن ظلالها لما تزل ممتدة على بعض الشعراء في القصائد التي تتغنى بالحب أو الطبيعة ذلك لكونها تعتمد في جذورها إلى التعمق في مخيلة الشاعر الذي مهما حلَّق في موضعة الوجد والهيام وحتى التحسر على حالة إنسانية قد تكون مأساوية تجسد الصورة بروح الحب والعطف، لم تتخلَ عن الإيقاع الموسيقي الذي يصاحب الكلمات الشاعرية مهما كان التنوع في التشكيل والتبديل بين القصيدة التي تحتوي على الرباعيات، حيث كل رباعية بقافية قد تجمع في قصيدة واحدة أربع أو خمس رباعيات بقوافٍ مختلفات، محاكاة لما شاع بين شعراء المهجر الشمالي وخاصة شعراء (الرابطة القلمية) وقد كانت( د. نادرة سراج ) قد خصت هذ الرابطة بكتاب بحثي شامل، واستمر التنقل بين الرباعيات، والشعر المرسل المتسق مع البيت ذي الشطرين ويختلف باختلاف القافية فربما تكون القصيدة أحيانا من عشرين بيتا أو أقل - كل بيت قافية مغايرة للبيت السابق - وكانت الطريقة سائرة ومتداولة بين الشعراء حتى النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي.

في أواسط الأربعينيات أصل إلى ما كان عند نازك الملائكة، وبدر السياب وما أطلق عليه مدرسة (الشعر الحر) الذي أفضِّل أن يبقى على هذه التسمية التي نشأت معه، لكونها الأقرب إلى الشعر الجديد وحفظ إطاره الذي جاء مدروساً، دعت إليه حالة الانفتاح على العالم الآخر كما كانت الحال بالنسبة للتفاعلات التي حصلت للشعر العربي عبر العصور، وهذا الجديد الذي رسخ كأقوى حركة تدخل لتمثل هذا العصر حقا - ولم تزل حتى الوقت الراهن - لأن ما برز عنوة آنذاك من قبل من تسموا بناقدين من تعريض بأشعار بدر السياب، ونازك الملائكة، وسعدي يوسف، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وأحمد حجازي، وخليل حاوي، وبلند الحيدري، وغير هؤلاء من الشعراء الذي واصلوا في تمدد حركة الشعر الحر بعد السابقين نالهم المتناقدون بألسنة حداد حتى أنهم شككوا في ولاءاتهم وانتماءاتهم وما أسموه التغريب، وما أسماه البعض بالجناية (جناية الشعر الحر على الشعر العربي) فكانت الملاحقة بالتقليل والتشويه تلحق شعراء لهم مكانتهم في عالم الشعر العربي الحديث دراية وإبداعا مثل: محمد عفيفي مطر، وعلوي الهاشمي، وقاسم حداد. ما لحق بالسابقين من ممارسي النقد أو ممن يدعونه من قفز بغير مقياس إلى إلغاء وشطب المفاهيم الشعرية والنقدية والشعر (الحر) ذاته، جاء ذلك تبعا لمقولات طرحها بعض من ليس له ما يؤهله للدخول في التنظير الذي استشفه من خلفية ثقافية قامت على التقليد والامتصاص البليد من مصادر جلّها من أحاديث ولقاءات أجريت مع مشتغلين بما يمكن أن يلفت النظر إلى ذواتهم بغية الظهور حباً في تلميع الذات، فقصيدة التفعيلة (الشعر الحر) والقصيدة المموسقة لأنها غنائية فهي في عرفهم من سمات التخلف والرداءة في الشعر.

إن ما يعطي جمالية الشعر ويرسخه في الذات المبدعة/المتلقية، يتمثل في (الموسيقى/الإيقاع) فالموسيقى لغة الشعوب - قيل ويقال ذلك ويكرر - ويؤكد عليه، فالشعر دون موسيقى أو إيقاع، هو شيء غير الشعر مهما عمل فيه من تعمية وإبهام، لأن الشعر هو الذي أوجد الموسيقى، لقد كان الشعر وكان التأمل الجمالي الذي أدى إلى جماليات وانفراده بهذه الخاصة التي تدل عليه، فمهما كان من الذين يتندرون متشعلقين بأهداب (مجلة شعر) وأكثرهم لا يعرفون عنها شيئا، وقد حصل لي شخصيا موقف مع واحد من هذه الزمرة المتحذلقة يقول إنه شاعر ويردد اسم (مجلة شعر) مركزاً على أن «قصيدة النثر تأبى وتتجنب الموسيقى وألا تتعاطى مع التفعيلة، وغير خاضعة لقواعد اللغة العربية» وسألت هل اطلعت على هذه المجلة؟

تملص.. وهو في الحقيقة لم يطلع عليها وإنما سمع بها وربما صادفه هامش في حديث مع أحد منظري المجالس والمقابلات ووسائل التواصل ممن يتعكز على (أناه) بغية إعلام عن حضور الذات.

المعروف عن المهتمين بالشعر ونقده ونقلوه في كتبهم أن مجلة شعر كانت لشلة تجتمع وتتفكك فتصدر ثم تحتجب حسب أمزجة الذين مروا بها وتفرقوا ومن كان منهم لديه الموهبة والقدرة على العطاء لجأ إلى (مجلة الآداب) للدكتور سهيل إدريس أو (مجلة الأديب) للشاعر البير أديب، حيث كان الأدباء والشعراء والنقاد من ذوي المواهب والتجارب والخلفيات الثقافية التي تعطي وتفيد ينشرون بهما، وهذا سجله التاريخ في نتاجات هي اليوم المراجع والركائز الأساسية لدارسي الأدب الحديث؛ لما انتجوه من كتب تتجدد مع الزمن.

أخلص إلى قول منقول أورده د. طه حسين في أحد كتبه «بول فاليري قال عن مالا رميه متحدثا عن الشعر: إن الشعر هو الكلام الذي يراد به أن يتحمل من المعاني ومن الموسيقى أكثر من الكلام العادي». أقف هنا للراحة ولي أمل في القادم أن أسير على شط الراهن بأناة في المساحة الشعرية المحلية فلها حقها من التعريف والاعتراف بمكانتها بالتدرج من البدايات إلى الحاضر.


خليل حاوي


د. علوي الهاشمي


صلاح عبدالصبور


نازك الملائكة


بدر السياب