منذ بضعة أسابيع، احتفت جمعية الثقافة والفنون بجدة واحتفلت بتدشين كتاب عبد العزيز الصحفي عن سيرة وإنجازات أحد عمالقة التاريخ الموسيقي السعودي ورموزه الثقافية الموسيقار غازي علي، تكريماً له في ليلة من ليالي مدينة جدة حضرها محبوه من المثقفين والفنانين، وهي مبادرة ليست بغريبة على الجمعية في فرعها الذي يتسم بالنشاط والفعالية. وقد شرفني الموسيقار الغالي أ.غازي بالكتاب مع إهداء له تقديره عندي.

ومعروف أن الأستاذ «غازي علي» أيقونة تاريخية سعودية تفتح لك حياة مملوءة بشغف الموسيقي والأدبي ممتدة لـ85 عاما -حفظه الله وشافاه- بدأت منذ انسكاب أذان الحرم النبوي الشريف في أذنيه، وهو يلعب في جنباته طفلاً في سنواته الأولى بالمدينة المنورة حيثُ ولد عام 1357هـ وترعرع، وكان له عميق الأثر في صياغة نفسه بشفافية وروحانية عالية تغذت بها روحه، فيما كانت تُحلق مسامعه مع دندنة والدته»معزوزة الدسوقي» -رحمها الله- لأغنيات أم كلثوم وأسمهان خلال قيامها بشؤون بيتها وتربية أطفالها اليتامى بعد وفاة والده وهو في الخامسة من عمره، ورغم يتمه لم يشعر به لما أغدقته عليه من حنانها وعطفها، فعمّقت فيه رهافة الإحساس وجعلته حين سمع الموسيقى أول مرة من مذياع خاله طفلاً يبكي ويتعلق بحلم طموح أن يكون موسيقياً، وكبر والحلم معه حتى سافر إلى القاهرة بمساعدة والدته وهو في 17 عاماً، حاملاً معه أمنيّة وأغاني سجّلها للإذاعة السعودية؛ متوجهاً إلى دراسة الموسيقى في المدرسة الإيطالية ومنها إلى معهد»الكونسرفاتوار» الذي تتلمذ فيه على يد عمالقة الموسيقى العربية أمثال رياض السنباطي وإبراهيم شفيق وعازف العود الكبير جورج ميشيل، لكن أثر السنباطي كان الأعمق في نفسه؛ وكيف لا؟! وقد وصفه في أحد حواراته بأنه أفضل تلامذته العرب.

لقد شكلت التفاصيل الصغيرة منه في كل مراحل حياته طفولة ومراهقة وشباباً إنساناً عميقاً تمتلئ نفسه بالطمأنينة، زاهداً في الأضواء والمال بعد أن شعر أن حلمه بتأسيس أكاديمية للموسيقى بعيد المنال، فعكف حياته لتعليم الموسيقا وشغفه باليوغا ورعاية والدته حتى وفاتها، ولم يتزوج لأنه من القلة التي لا تحب سوى مرة واحدة في العمر، إذ تعلق قلبه بامرأة قبطية أحبها خلال دراسته في «الكونسرفاتوار» ولم يكتب له نصيب بالزواج منها لاختلاف الأديان بسبب تزمت أسرتها ورفضهم زواجهما، فأغلق خلفها أبواب قلبه.

ومع شفافية نفسه فإنك حين تُحادثه إلا ما تشعر بالهيبة أمامه تقديراً واحتراماً لقامته وتجربته الإبداعية الثرية وسنوات العمر، وقد تشرفتُ بمعرفته منذ 2006م حين التقيته لإجراء حوار صحافي وكتابة سيرة حياته وهو المبتعد عن الإعلام الرافض لأضوائه فكان إقناعه ليس سهلاً ولكني كم أشعر بالسعادة حين يقول لي: «من أجمل ما قرأته عنّي يا بنتي حليمة»؛ وطوال هذه السنوات عرفتُ بعدها ما يتمتع به من عاطفة أبوية أشعر بها كلما تحدثنا، حتى أن ببغاءه كان يناديه: «بابا غازي» وهو يستمتع بندائه، إنه ثراء تاريخي من الإبداع الفني و الحكايات والثقافة، ورغم المرض وتقدمه في السن لكنه يدهشك إذا ما تحدثتُ معه بمتابعته جيداً لأخبار الصحف والأوساط الثقافية.

وبصدق إنه ليس فقط ملحناً موسيقياً من طراز رفيع، بل صاحب»روابي قبا «وصوت شجي وشاعر بدأت علاقته بالشعر صغيراً كما أخبرني منذ سماعه أغنية محمد عبد الوهاب «جئت لا أعلم من أين!» لايليا أبي ماضي والتي كانت نافذته كي يعرف أن داخله شاعرا وهو في الابتدائية يوفر مصروفه قرشا قرشا كي يجمع»ريالاً» ثمن ديوان أبي ماضي (الخمائل) ويشتريه من مكتبة (النمنكاني) المجاورة للحرم النبوي.

واستطاع أن يكون الأستاذ مدرسة للتراث الموسيقي بل موسوعة الموسيقا السعودية العربية ويكفي أنه قبل أكثر من خمسين عاما كان أول من درسها أكاديمياً في المعهد القومي العالي للموسيقى بمصر «الكونسرفاتوار» عام 1969م، وهو يستحق الكثير من التقدير الإعلامي والموسيقي والثقافي، ولديه الكثير من الأعمال الموسيقية المسجلة وغير المسجلة التي ينبغي أن تكون محل اهتمام هيئة الموسيقى والفرقة الوطنية الموسيقية وتوثيقها، وأن تحتفي وزارة الثقافة به كونه رائد من روادنا، وكم أتمنى من سمو وزير الثقافة المثقف والفنان الأمير بدر آل سعود تنظيم حفل موسيقي بوجوده يتم فيه الاحتفاء بأعمال غازي علي وغناؤها تقديراً لمكانته وتسمية مسرح باسمه أسوة ببعض زملائه الرواد وتعويضاً عن السنوات التي بقي فيها معلماً للموسيقا في شقته المتواضعة والتي أخرج من غرفة الدرس فيها بعض من باتوا اليوم نجوم الأغنية السعودية؛ لهم حفلاتهم الفنية ويتم الاحتفاء بهم.

وتبقى «الموسيقا حياة» كما قال لي مرة أستاذنا القدير غازي علي.