كلما التفتُ نحو مكتبتي لمحتُ جيش الأصدقاء المرصوصين في شكل مؤلفات تتسلق حيطان البيت كلها. تُرى ما الذي يثبتهم في الذاكرة الفردية أو الجمعية؟.. بعضهم توفي منذ قرون مثل هوميروس، المعري، غاليو، دافانشي، سيرفانتس، ابن عربي، التوحيدي وغيرهم، وهناك من غادرنا منذ سنوات، ابن هدوقة، وطار، نجيب محفوظ، ماركيز، وآخرون لا تزال أمكنتهم دافئة لأنهم خرجوا من هذه الدنيا قبل شهور قليلة مثل كارلوس زافون وغيره.

هذه الوجوه وغيرها، لا تغيب إلا لتحضر من جديد، وكأن القدر تخطاها.. وجوه لا يزيدها الموت القاسي إلا ترسخاً أبدياً فينا، فقد حفرت أمكنتها بإبداعاتها الحية، ولكن أيضاً بإنسانيتها الراقية.

لم يكن مرزاق بقطاش (1945-2021) روائياً مميزاً، أبدع نصوصاً تظل في الذاكرة، ولكنه شكل أيضاً منعطفاً حقيقياً في التجربة الروائية العربية الحديثة في الجزائر، فقد كان معبراً حقيقياً بين جيلين: الجيل الترسيخي كابن هدوقة ووطار، ومحمد عرعار، الذي ورث الرواية في صورها التأسيسية الأولى منذ الأربعينات من رضا حوحو، ونور الدين بوجدرة، محمد المنيع، وغيرهم، والجيل الشبابي أو ما سُمي لاحقاً بجيل السبعينات، الذي احتضن الرواية وجعل منها جنساً أدبياً له مكانته في الحقل الثقافي، وطنياً وعالمياً.

لهذا حملت نصوص مرزاق بقطاش كثيراً من علامات النص الكلاسيكي الذي شيد مشروعه الروائي عليه بالدرجة الأولى، متأثراً بالمنجز الروائي العربي والعالمي الكبير، وبالكثير من العناصر التجديدية التي جعلت النص الروائي لديه يتخطى عتبات المحافظة على الشكل الروائي الأحادي الذي كان بصدد التفكك.

ثقافته العربية، والفرنسية والإنجليزية المتينة، وأمازيغيته الأصيلة في بُعدها اللغوي والثقافي، جعلت منه أديباً روائياً كاملاً، خارج السجالات العرقية أو النموذج الغربي المطلق. رواياته الكبيرة، ومجموعاته القصصية، ومقالاته الصحفية، وحتى بعض تأملاته، وأشعاره، ونصوصه الحرة، كلها تؤكد هذا الغنى الذي حملته.. فقد نشر بالفرنسية رواية مهمة أطلق عليها اسم كلاموس (القلم) قبل أن يترجمها هو نفسه إلى اللغة العربية.

ونشر بالعربية، نصوصاً روائية كثيرة، منها طيور في الظهيرة، وهي روايته الأولى، ثم رواية البزاة التي شكلت الجزء الثاني من سيرته التي افتتحها بطيور في الظهيرة، ثم رواية عزوز الكابران، وبعدها رواية دم الغزال، وغيرها من النصوص التي تتبعت حركة المجتمع الجزائري بدقة الروائي والأنثروبولوجي منذ الاستعمار، حيث تابع الاحتلال بعيني الطفل المنتقد، ثم فترة التحولات الجزائرية العميقة، والتي خلفت شروخاً عميقة في البنية النفسية للشعب والمجتمع.

في العشرية السوداء، التسعينات، أصبح مرزاق بقطاش عضواً في المجلس الوطني الاستشاري التابع مباشرة للرئاسة، قبل أن يتعرض لمحاولة اغتيال نفَذ منها بقدرة قادر.. الرصاصة التي اخترقت خلفية الرأس وخرجت من صدغه، لم تمسس أي جزء حيوي منه.

بعد مدة قصيرة عاد إلى الكتابة بحماس أكثر وكتب «دم الغزال» الذي عبر فيه عن تجربة الموت القاسية، لكن البحر ظل موضوعاته الأثيرة، لأنه جزء حيوي من تجربته الطفولية وتجربة والده البحار.