أصدر الأديب المصري توفيق الحكيم (1898-1987) كتاباً تحت عنوان «سُلطان الظَّلام»(1941)، كتبه تحت ضغط فواجع الحرب الّثانيَّة (1939-1945). أبدى فيه قلقه والعالم يتواجه في حرب لا تترك مجالاً للتفكير بالمستقبل، استهل كتابه بالعبارة: «إنَّ الظَّلامَ الزَّاحفَ على الإنسانيَّة يُخيفني»! فمِن طبائع الحروب أنَّها تنصر الظَّلام، وتُطفي «النُّور» بكل معانيه.
لكن ما هو «الظَّلام» ليكون سلطاناً زاحفاً على النور؟! هذا أيضاً شكل قلقاً، في ظلمة أواخر القرون العثمانية، مقابل الاختراع تلو الاختراع والاكتشاف تلو الاكتشاف بأوروبا، عندها دارَ الجدل على صفحات مجلة «العلم»، التي كان يصدرها الفقيه النجفي هبة الدِّين الشَّهرستاني (ت: 1967)، ويطبعها الصحافي والكاتب النجدي سليمان الدِّخيل (ت: 1944) ببغداد، عن طبيعة الظلام، فإذا كان النور جسماً محسوساً فماذا يكون الظلام؟! جسم مِن الأجسام أم مجرد زوال النُّور؟! كان أحد المتحاورين الشَّاعر المتفلسف جميل صدقي الزَّهاوي (ت: 1936م). نُشر الجدل تحت عنوان «الظلمة حقيقة وجودية أم عدميَّة (العلم: 3/1911)، فظهر رأيان: الظَّلام عرض عدمي شأنه شأن البرودة، وعرض وجودي، مثل اللّيل والنَّهار.
أجد في ما كتبه توفيق الحكيم، عن سُلطان الظَّلام، بما كان يسمع ويرى، عن المآسي التي سببتها الحرب الكونيَّة، قلقاً على ما تحقق مِن تنوير بمصر العشرينيات والثَّلاثينيات، على الرّغم مِن وجود الجماعات الكابحة للنور والدَّافعة لسلطان الظلام، التي مِن طبيعتها أن تستغل مآسي النَّاس، مع أن الغرب تجاوز الكارثة، ولم يتراجع إلى القرون الوسطى والسّلطة الدِّينية. بينما كانت مناظرة العراقيين، قبل أكثر مِن مئة عام، رمزية للحركة التَّنويرية الصَّاعدة آنذاك، وكان رمزاها داخل العراق: الشَّهرستاني، والزَّهاوي، مع اختلافهما في التَّوجه، قدمهما علي الوردي (ت: 1995) بالرَّائدين الفكريين (لمحات اجتماعيَّة). سلك الشَّهرستاني لتحقيق «التَّنوير» سبيل الدِّين، بينما سلك الثَّاني سبيل العِلم، حتَّى فتنته نظرية داروين في التَّطور(1859)، وهو القائل: «المذهب القوي في رأيي هو مذهب داروين في النّشوء والارتقاء، وقد تبعته، ولم يتبعه غيري قبلي، وقد شاع بسببي في العراق»(الرّشودي، الزَّهاوي دراسات ونصوص).
عندما ننظر في النتيجة التي أسفر عنها الوضع السياسي والاجتماعي، لا نجد نجاحاً قاطعاً لواحد منهما، مع أن التقدم المدني والحضاري قد ساد في المجتمع العِراقي منذ بداية الثَّلاثينيات حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، لكن ذهب ذلك أدراج الرِّياح، وكأنْ لم تتحقق نهضة، سواء كانت بجهد الشَّهرستاني أو الزَّهاوي، ومَن أيد كلاً منهما، ولو عاش الوردي إلى يومنا هذا لراجع ما كتبه يوم كان يعيش التَّمدن:«نجحت دعوة الزَّهاوي أخيراً، بينما أخفقت دعوة الشَّهرستاني، ذلك لأن التَّيار الحضاري جبار ساحق، لا يقبل بأنصاف الحلول» (لمحات اجتماعيَّة).
أقول: إذا كانت دعوة الزهاوي، حسب الوردي، قد نجحت، فما الذي أفشل دعوة الشهرستاني، والتي حصرها في تحديث المجال الديني الطقوسي والاهتمام بالعلوم بما لا يُخالف الدِّين؟! أفشلها رجال الدين أنفسهم، لأن جهل العامة يدر ثروات عليهم، حتى اضطر الرَّجل إلى ترك العراق لسنتين أو أكثر، وأغلق مجلته!
إذا نظرنا إلى فكرة توفيق الحكيم عن سلطان الظّلام المخيف، نجدها قائمة، بما أسفرت عنه الصَّحوات الدِّينية، تلك التي أكدت بالبرهان الواضح، مِن خلال ممارسات أحزابها ومنظماتها، على أنَّ الظَّلامَ ليس مجرد عرض وجودي أو عدمي، إنما وباء فاحش، والمواجهة بينه وبين النُّور شرسة جداً! يكفي أن يُنظر إلى مَن القتيل ومَن القاتل داخل العراق مثلاً، لنعرف ماذا تبقى مِن التّيار الحضاري الجارف في الماضي القريب! للزهاوي في المعركة النُّور والظَّلام: «إنَّ في رونقِ النَّهارِ لناساً/لم يَزُل عن عيونها الدَّيجورِ»(ديوان النَّهضة، السُّؤال عن السُّفور والحِجاب)، هذا، ومعنى الدَّيجور الظَّلام الشَّديد.