لا يختلف اثنان حول انهيار النقد العربي ومحدوديته، إلى اليوم لم يبرز ناقد كبير فرض نفسه في الحقل النقدي العربي بمنجزه وإضافته العالمية، كل ما أُنتج ظل رهين المحلية، أو رهين المدارس الغربية التي تحكمت في كل مساراته بإعادة إنتاجها في غياب فهم حقيقي.

مضى الجيل الأول الحديث، جيل طه حسين، لكنه لم يترك إلا علامات خفيفة، فقد كان رهانه الكبير ليس الإضافة، ولكن نقل المعارف الغيرية نحو الثقافية العربية، إلى عالم لا يزال يعيش في وهم الشرق الروحاني والغرب المادي، قبل أن يكتشف غرباً هرب عن الشرق بسنوات ضوئية، وتكفي قراءة «تخليص الإبريز في تلخيص باريس» للطهطاوي، لندرك كم كانت فجيعة اكتشاف الآخر المتقدم في القرن الـ19، مربكة ومحزنة.

الأجيال التي تلت لاحقاً، وإلى اليوم، لم تخرج عن منطق طه حسين أبداً، أي نقل المعرفة النقدية الغربية المتطورة نحو شرق يعاني النقائص المدمرة التي ثبتتها الاستعمارات المتتالية، لهذا فمنطق الإضافة الإنسانية لم يكن هاجس النقد العربي، وظل رهين هذه الدائرة التي كانت تتسع وتضيق عليه.

الظواهر العربية الوحيدة والنادرة التي شاركت في الفعل النقدي العالمي، وأضافت له من معارفها، هي تلك التي نشأت وكبرت في أوروبا وأمريكا، جمال الدين بن الشيخ الذي أسس في جامعة السوربون كرسياً للغة العربية وأشرف عليه، فقد انخرط في الدراسات الفكرية والأدبية، ودرس باللغة الفرنسية، خاصيات المخيال العربي من خلال نصوصه التأسيسية الكبيرة مثل ألف ليلة وليلة والإسراء والمعراج، والمنجز الشعري العربي القديم، نتجت عن ذلك سلسلة من المؤلفات العالمية: ألف ليلة وليلة أو الكلمة السجينة (1988)، الشعرية العربية (1998)، معراج محمد، متبوع بمغامرة الكلمة (1988)، قبل أن يقوم بترجمة ألف ليلة في صيغتها الأصلية العريقة برفقة صديقه أندري ميكاييل، وتطبع في أهم وأثمن سلسلة عالمية (الثريا).

لقد كان تأثيره في الثقافة الغربية كبيراً، برفضه كلياً، استشراق البازار، الشيء نفسه قام به الكاتب الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد في كتابه المرجعي الاستشراق (1978)، وكان واحداً من رواد أدب ما بعد الاستعمار، وكتب العالم والنص والناقد (1983)، القومية والاستعمار والأدب (1990)، الثقافة والامبريالية (1993)، الإنسانية ونقد الديمقراطية (2004) عن النموذج الأخير/ الموسيقى والأدب ضد التيار (2006) وغيرها من المؤلفات الكثيرة، التي بيّنت أن النقد هو أولاً بنية فكرية وليس ترديداً لأطروحات المدارس النقدية العالمية.

ثانياً، هو عمق ثقافي وفكري وفلسفي، كلاهما جمال بن الشيخ وإدوار سعيد استفادا من منجز ما بعد الحداثة (فوكو ودريديا) لإعادة تفكيك البنية الثقافية العربية، التي لم تستفد كثيراً من منجزهما بسبب غرقها في السهولة.

من الصعب تخيل نقاد كبار مثل تودوروف، جيرار جنيت، أمبيرتو إيكو، وغيرهم، خارج المكون الفكري والفلسفي واللغوي الأجنبي، لهذا ظل الناقدان والمفكران ابن الشيخ وإدوارد سعيد، جزيرتين معزولتين، وغير مأهولتين، في ظل نقد عربي متقادم فكرياً حتى في نماذجه الجديدة.