قبل خمسين عاماً، هبطت لأول مرة في مطار بيروت، وتوجهت بعد استراحة قصيرة إلى سلسلة جبال القلمون السورية لإنجاز بحث جغرافي ميداني مهم، وكانت بيروت في ذلك الوقت مدينة رائعة تنبض بالحياة، ومقصداً لطلاب العلم والفنانين والمفكرين، الذين يتوافدون إليها من كل أنحاء العالم العربي.

وأذكر جيداً أنني شعرت بالصدمة من قوة الضجيج الصوتي وتلوث الهواء في شوارعها بسبب حركة المرور غير المنضبطة، والشعور السائد لدى المواطنين بعدم الاكتراث بالحالة العامة للمدينة، فضلاً عن التناقضات والخلافات الاجتماعية الواضحة والسائدة بين السكان.

ولقد كانت هذه هي الخصائص الأساسية للعاصمة اللبنانية، وأذكر أيضاً أنني لم ألتفت كثيراً إلى الرقي المعروف عن شارع الحمرا، الذي يعتبر رمز ازدهار لبنان ويشتهر بالمقاهي الفخمة المنتشرة على أرصفته والشبيهة بالمقاهي الباريسية الشهيرة، وكنت في ذلك الوقت أتوق أيضاً لزيارة دمشق التي تُعدّ القلب الحقيقي النابض للشرق، بأزقّتها الضيّقة التي تؤدي إلى القصور، ومساجدها وكنائسها الشهيرة، وشوارعها الواسعة الحديثة والنظيفة.

صحيح أن هذه الذكريات مضت وولّت منذ وقت طويل، ولكن لا يسعني الآن إلا أن أشعر بشيء من الأسف للانهيار الحالي الذي يشهده لبنان، ولمستقبله الذي أصبح غامضاً، ومنذ أوقات الحرب الأهلية في السبعينات والثمانينات كنت لا أجد الراحة والشعور بالأمان إلا بالهروب من بيروت إلى جبالها وطبيعتها الساحرة وتاريخها العريق.

ويرتبط الارتقاء الحقيقي للبنان بشكل وثيق بالتعايش السلمي بين طوائفه المختلفة، حيث كان سكانه يتقاسمون شؤون الحياة وشجونها خلال قرون مضت، وهم يحتاجون الآن لاستنهاض الهمم وتوظيف طاقات جديدة، يمكنها إعادة ترميم مجتمعهم الذي أصابه الدمار، ولا يمكننا إلا أن نتذكر أن البيئة الطبيعية والبشرية الفريدة التي تميّز لبنان مرتبطة بشكل قوي بالعالم أجمع.

وفي جباله وقممه الشامخة وأوديته المنحدرة بشدة، وبموارده البشرية والمادية، تكمن الآمال بأن يتمكن هذا البلد من لملمة جراحه العميقة والعودة إلى النهوض من جديد.

ونظراً لأن ثلثي اللبنانيين يعيشون في المهجر، فإن حل أزمة بلدهم يكمن بشكل أساسي في مدى استعدادهم لدعم ذويهم وأقربائهم ولكن بشرط أن تتم إعادة ارتباطهم بوطنهم على النحو السليم.

وفي الوقت الراهن، تُعدّ التنمية المحلية والمساعدة الإقليمية الطريقة المفضلة لخروج لبنان من محنته الصعبة، وبحيث يتزامن ذلك مع السعي الحثيث لإنجاح سياسة تحقيق الاكتفاء الذاتي، وقد يتطلب تحقيق هذه الآمال قطع طريق شاق ومؤلم، إلا أن ذلك ممكن بشرط عودة الوئام والوحدة الوطنية.