شهدت شوارع مدينتي بلفاست ولندنبري في أيرلندا الشمالية خلال الأسبوعين الماضيين حوادث عنف أصيب خلالها 70 شرطياً بجروح في مواجهات مع شبان متظاهرين، هذه النتيجة التي لم تكن مُتوقعة للمفاوضات الشاقّة والمعقدة الدائرة حول «بريكسيت» بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وأيرلندا الشمالية.

ويتعلق الأمر بثغرة كامنة في صلب الاتفاق الذي تم التوصل إليه بعد هذه المفاوضات المطوّلة، وذلك لأن أيرلندا الشمالية تمثل الأرض الحدودية الوحيدة للمملكة المتحدة مع إحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وهي جمهورية أيرلندا، لكن اقتضت الحاجة ترسيم خط الحدود الخارجي الجديد للاتحاد الأوروبي.

وبالنسبة لجيلي من الكبار، تعتبر مجرّد الإشارة إلى اسم أيرلندا الشمالية تذكيراً محزناً بحرب دموية حدثت في قلب أوروبا، حيث كان فيها مجتمعان بقيا على خلاف مرير طوال 30 عاماً لم يشهد نهايته إلا بعد التوصل لما يعرف باسم «اتفاقية الجمعة العظيمة» عام 1998.

وكان «الجمهوريون» يمثلون أحد هذين الطرفين وهم أنصار الوحدة مع جمهورية أيرلندا بعد الانفصال الذي حدث عام 1921، ومعظمهم يدين بالمذهب الكاثوليكي وينتسب لفئة الطبقة العاملة، ويتألف الطرف الآخر من فئة «الوحدويين» الذين يدافعون عن اتحادهم مع المملكة المتحدة، وهم يشكلون المجتمع الأيرلندي الذي يدين بالمذهب البروتستانتي، وكانت لهم اليد الطولى في التأثير الاجتماعي، ونشبت بين الطرفين حرب دامية خلفت 3700 قتيل و40 ألف جريح.

وفي عام 1998، توصل الطرفان لصيغة لإحلال السلام بينهما تعرف باسم «اتفاقية الجمعة العظيمة» تقضي أهم بنودها بمنح «الجمهوريين» حقوق المساواة، والسماح لـ«الوحدويين» بالإبقاء على اتحادهم مع المملكة المتحدة، ومنذ ذلك الوقت تعيش الطائفتان بسلام ووئام.

وما لبثت أن برزت مؤخراً مشكلة عدم النزول عند رغبة «الجمهوريين» بتخطيط الحدود البرية وضمان حرية تنقل الأشخاص والبضائع بين شطري أيرلندا، وكان الحل المقترح من الاتحاد الأوروبي لحل هذه المشكلة يقضي بفرض الرقابة الحدودية في موانئ المقاطعات، وهو إجراء يؤدي إلى إنشاء حدود جديدة بين أيرلندا الشمالية وبريطانيا العظمى، ومن شانه أن يثير حفيظة «الوحدويين» الذين يشعرون بأن هذا الاقتراح يمثل خيانة وتهميشاً لهم من لندن.

والآن، وغداة حلول ذكرى مرور قرن على استقلال أيرلندا الشمالية عن بريطانيا العظمى عام 1921، يشعر الأيرلنديون بإحباط شديد يصعب إيجاد حل عملي له، إذ إن ما يحدث باختصار يمثل انتقام الجغرافيا من السياسة، ودعونا نأمل أن تسود الحكمة وأن يبقى السلام.