على مرأى من العرب والعالم دمّرت آلة الحرب الإسرائيلية أعلى برج سكني وتجاري وخدماتي في غزة.
هذه الخطوة كانت مرتقبة للجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وكيف لا تكون مرتقبة بعدما انهمرت صواريخ «حماس» على عدة مناطق في إسرائيل.
أساساً، اليمين الإسرائيلي الحاكم لم يعفّ عن تهجير البشر في حي الشيخ جرّاح المقدسي من دون استفزاز مسبق... فكيف يعفّ عن الحَجَر في غزة عندما تتوافر لديه «ذريعة» الدفاع عن النفس التي تتسابق بعض العواصم العالمية على تصديقها؟
دعونا من الأرقام والمناشدات، والاستنكارات والوساطات. الليكود و«حماس» ومن هم وراء «حماس» يعرفون اللعبة وعواقبها تماماً. هذا ما يقوله المنطق والتجارب منذ عقود.
«مؤسسة السلطة» الإسرائيلية التي تغيّرت «كيمياؤها» من الاشتراكية العمالية الصهيونية... إلى تحالف العسكريتاريا الصهيونية المحافظة مع التوراتية الأصولية الفاشية، لديها مشروعها الواضح الصريح. وهي ماضية قدماً في تحقيقه بلا تردد بدليل النتائج المتتالية للانتخابات التشريعية، وانهيار البدائل اليسارية والليبرالية المقتنعة بجدوى السلام والتعايش. هذه حقيقة لا ينكرها إلا ساذج أو مكابر.
في المقابل، ثمة بديل فلسطيني تجسده «حماس»، ومعها «الجهاد الإسلامي»، لديه أيضاً مشروعه السياسي المُستقوي بالتحالف الفكري - التنظيمي بين الدين والسلاح. فهنا أيضاً السلاح يخدم الشعارات الدينية بينماتسوّغ هذه الشعارات استخدام السلاح.
ومن ثم، من منطلق الوصف التحليلي - بمعزل عن القناعات الوطنية والمشاعر الأخوية والولاءات القومية والدينية - يظهر الجانبان عبر خطوط الجبهة الملتهبة بمظهرين متشابهين للجهات المحايدة أو التي تزعم الحياد.
هذا، حتماً، لا ينطبق على بعض اللاعبين الإقليميين والعالميين الكبار الذين لديهم حسابات أكبر بكثير من عدد الشهداء ودموع الأبرياء ودقة إصابة الصواريخ ومناظر المباني المقصوفة والمنهارة. ففي نهاية المطاف لكل حرب نهاية، وفي كل نهاية صفقة.
بالأمس، كان بليغاً في عبثيته تعليق جين ساكي، الناطقة باسم البيت الأبيض، عندما قالت «حماس منظمة إرهابية... ولا تبرير لاستخدامها الصواريخ!». وأردفت «حماس لا تمثّل الآراء والناس الذين يعانون، وجميع الشعب الفلسطيني الذي يعاني من هذا العنف».
العبثية هنا تكمن في مسألتين:
- الأولى أن كون «حماس منظمة إرهابية» - حسب وصف ساكي - ينزع عنها الحق في استهداف المدنيين العزّل بالصواريخ، لكن هذا الحق يُحترم ويستحق الدفاع عنها إذا مارسته حكومة دولة ذات سيادة، أعطتها الولايات المتحدة الحق غالباً في انتهاك قرارات الأمم المتحدة، وآخرها في موضع «القدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل». وهذا بالضبط، ما شجع حكومة بنيامين نتنياهو، المتمسك بالحكم هرباً من السجن، على فتح معركة تهجير حي الشيخ جرّاح.
بل أكثر من هذا، يثير كلام ساكي عن «الإرهاب» التساؤل عما إذا كان هذا «المنطق» ينطبق على حوثيي اليمن الذين يستهدفون المدن اليمنية والسعودية، ومع ذلك تتجاهل جرائمهم واشنطن والدول الغربية؛ أليست ممارسات الحوثيين «إرهابية»؟ أليس مصدر صواريخهم هو المصدر نفسه الذي يغذي ترسانة «حماس» و«الجهاد الإسلامي» والذي تتسابق واشنطن وعواصم أوروبا الغربية على التفاوض معه، وتقبّل قدراته النووية، ورفع الحظر عن أمواله... المخصّصة لما تعتبره الدول الغربية الكبرى «إرهاباً»؟!
- الثانية، أن «حماس لا تمثّل الآراء والناس الذين يعانون». وهذا كلام قد يكون صحيحاً، لكن ساكي لم تخبرنا ما إذا كان للفلسطينيين الحق بأن «يبدوا آراءهم» في الاحتلال، ومقاومة تعديات المستوطنين، وهدم البيوت، واقتلاع أشجار الحقول، ومنع أهل القدس من التصويت في الانتخابات، وجعل «القدس مدينة موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل». وهل تظن الناطقة - وطبعاً، مَن تنطق باسمه - أن أي سياسي فلسطيني يسكت عن جرائم كهذه يمكن أن يحتفظ بأي صفة تمثيلية؟ ألا تعرف، أن ما فعلته إسرائيل وتفعله - بدعم من واشنطن - لتدمير صدقية تيارات التعقل والاعتدال والتعايش الفلسطينية كان سبباً مباشراً لـ«تيئيس» أجيال من الفلسطينيين ودفعها دفعاً إلى أحضان «حماس» والتنظيمات المماثلة؟ إن الجهة التي تمثل الشعب الفلسطيني هي الجهة التي تحبه وتحترمه وتدافع عن حقه... فهل يريد المجتمع الدولي حقاً الإصغاء إلى صوتها؟
لقد حرفت خلال اليومين الأخيرين «حرب القصف والصواريخ» الأنظار عن شرارة البداية، التي هي جريمة الاستيلاء على حي الشيخ جرّاح وتهويده.
هنا نقطة البداية في الأحداث الجارية حالياً. وكما كانت شرارة «الانتفاضة الفلسطينية الثانية» (انتفاضة الأقصى) عام 2000 زيارة آرييل شارون الاستفزازية للحرم القدسي، وهو يدرك سلفاً ما ستؤول إليه، اختار نتنياهو تسريع عملية تهجير سكان حي الشيخ جرّاح وهو يدرك سلفاً رد الفعل عليها.
حسابات نتنياهو أصلاً شخصية انتهازية، فهو يريد بأي ثمن الإفلات من السجن بتهم الفساد وهو ما لن يتيسر له إذا كان خارج الحكم مجرداً من الحصانة. وبالتالي، ليس أمامه من خيار - وهو اليميني سياسياً لا إيمانياً - سوى الاعتماد بصورة متزايدة على أقصى اليمين التوراتي الاستيطاني، والاستقواء به والسير في ركابه. ومفهومٌ أن نتنياهو استفاد كثيراً خلال سنوات حكم دونالد ترمب وعلاقاته الشخصية مع صهره جاريد كوشنر. وخاصة، «هدايا» ترمب لليمين التوراتي في قضايا نقل السفارة الأميركية إلى القدس بعد اعترافه بها «عاصمة موحدة وأبدية للشعب اليهودي»، ناهيك من ضم هضبة الجولان.
نعم، نتنياهو - المأزوم حكومياً - كان يريد الصدام. وما يجعل الصدام أكثر جاذبية بُعده الإقليمي الواعد. فالإدارة الديمقراطية الجديدة السائرة بطاقم موروث من إدارة باراك أوباما متحمّسة للتطبيع مع إيران. ومن ثم، من مصلحة نتنياهو - وكذلك المؤسسة العسكرية - أن يكون لإسرائيل كلمة في «سقف التفاهمات» الأميركية - الإيرانية على مستوى المنطقة.
الإيرانيون، أيضاً، يعرفون دور ميليشياتهم في منطقة الشرق الأوسط ويسلحونها ويحرّكونها كي تخدم أغراضهم. وكذلك يفهمون ميزان القوى، ويعون جيداً وجود «سقف للتفاهمات» وتفاصيل لـ«صفقة التعايش والتقاسم» المطلوبة مع إسرائيل. ولهذا، تحاشى «حزب الله» لتاريخه التورّط عبر حدود لبنان، ولم يصدر أي تحرك جدّي لا من شراذم الأسد ولا التنظيمات الفلسطينية والإيرانية الداعمة له في سوريا.
إن المأساة الإنسانية في غزة والضفة محكومة بخاتمة «تفاوضية» سياسية.
وما لم تحصل مفاجآت غير محسوبة، أرجّح أن الحصيلة التي ستكون على حساب الفلسطينيين أولاً والعرب ثانياً... ستعجّل بالتوصل إلى صيغة تقاسم المنطقة بين إسرائيل وإيران برضا أميركي.