العالم يتغير لأن شكله يتغير. والحراك الهائل والعظيم الحاصل منذ عقود طويلة من الزمن بين البشر وهجرتهم لبلاد جديدة أسفر مع الوقت عن تغيير لافت ومهم ومؤثر جداً في التركيبة الديموغرافية للسكان، وبالتالي أضاف نكهات جديدة وغير مسبوقة في نكهات مواقفها السياسية والاجتماعية بصورة عامة. وهذا جعل مسألة إعادة تعريف الهوية شيئاً أساسياً ومحورياً لتأمين السلم الأهلي المستقبلي. ويظهر ذلك جلياً في كبرى الدول الصناعية بالعالم الغربي تحديداً، وتفاعل الشارع الشعبي مع مختلف القضايا الحقوقية سواء التي لها علاقة بالشأن المحلي البحت أو القضايا الدولية الكبرى. ولا يحتاج المراقب لهذه الأحداث للكثير من الوقت قبل أن يدرك أهمية حضور وبالتالي تأثير كتل مجموعات المهاجرين والأقليات في تلك الأحداث بشكل عام. وسؤال الهوية وعلاقتها بالمواطنة والوطن يعود مجدداً للظهور، ومن ثم السجال لأنه يعتبر بمثابة «النخاع الشوكي» بالنسبة لمنظومة الحكم في مفهوم الدولة المدنية.
الهوية لغة تعني الانتساب وفلسفياً هي تحمل معنى آخر لا يقل أهمية أبداً، وهو حقيقة الإنسان بشكل مطلق وصفاته الأساسية المكونة. أما في مفهوم علم النفس فتوصف الهوية بأنها حالة وجدانية بحاجة للدعم والتنمية. وهناك طبعاً مفهوم آخر لا يمكن إغفاله، وهو المفهوم السياسي الوطني، وهنا لها معنى واضح، هو الانتماء لوطن ونهجه يكون بالولاء التام بالسلوك والأفعال والاحترام تحت سقف القانون الواضح والصريح، دونما إساءة ظن بين الوطن والمواطن.
لا شك أن موجة العولمة الهائلة التي اجتاحت العالم بأسره، وذلك في حقبة التسعينات الميلادية من القرن الماضي، ساهمت وبشكل واضح ومؤثر وفعال في إعادة صياغة العلاقات بين البشر وثقافاتهم المختلفة بعد تذويب الحواجز والسدود بينهم، وإزالة الفوارق والعوائق وتوحيد العناصر المشتركة في مجالات الحقوق المنشودة والمزايا المأمولة، وهي القاعدة البشرية المشتركة التي تتفاعل إنسانياً مع القضايا العامة، فتفرح وتسعد تارة وتحزن وتبكي حينما يستدعي الوضع الاستثنائي ويتطلب ذلك.
القرية الصغيرة، ذلك الوصف العبقري لكوكب الأرض وسكانه تحول مع نمو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بكل منصاته إلى ما يمكن وصفه ببيت صغير مكون من «غرفة وصالة مفتوحين على بعض» كما وصفها بمنتهى البراعة أحد الفنانين الكوميديين العرب مؤخراً. وهذا الانفتاح والتحول الذي حصل جعل من مسألة الإحساس بالمشاركة ومسؤولية الدفاع عن قضايا العالم في ازدياد بشكل مدهش ومثير جداً، وخصوصاً في فئة الشباب أو ما دون الخمسة وثلاثين عاماً من العمر. والقضايا المعنية والمقصودة هنا تحمل أبعاداً وأشكالاً مختلفة للغاية ما بين التضامن مع عامل نظافة تم الاعتداء عليه في الهند إلى التضامن مع محرر تم فصله في إحدى المجلات في مدينة شيكاغو بالولايات المتحدة أو التضامن مع المتضررين الفلسطينيين من جراء الممارسات العنصرية والعدوانية من مستوطني إسرائيل وجيشها، علماً بأن الأمر لا يقتصر على الشأن السياسي أو الحقوقي فحسب، ولكنه ينتقل إلى الشأن والمجال الرياضي والفني أيضاً. فالقضايا العابرة للحدود والثقافات لا يمكن قولبتها في إطار ثابت ومحدد وحصرها فيه بشكل مطلق. ولعل أبلغ وصف لهذا الوضع المؤثر الجديد هو ما قام به المفكر المصري الراحل الدكتور جلال أمين في كتابه الذي حمل عنواناً عبقرياً هو «عصر الجماهير الغفيرة»، الذي توقع فيه أن الجماهير التي ستشكل قوى الضغط الأولى والأكثر تأثيراً ستكون أكبر عنصر فعال لتغيير القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمختلف أشكالها حول العالم. وهذه المسألة ولا شك أن صانع القرار الدولي بات يدخلها في حساباته بشكل واضح لا يمكن إغفاله أبداً.
إذا كانت الكتب تقاس أهميتها بما حققته من مكانة في قائمة الأكثر مبيعاً، وإذا كان الخبر يقاس أهميته بمقدور عدد زواره على الموقع وعدد علامات الإعجاب عليه، فإننا مقدمون على مرحلة في آلية صناعة القرار السياسي تقاس بحجم رضا ودعم أو غضب واستهجان الأعداد الكبيرة من تكتلات الجماهير الغفيرة من حول العالم.
العالم يتغير وشكله يتغير وصوت الجماهير يصل بصورة إلكترونية مباشرة وفورية لتكون عنصر تفاعل وتأثير، وهي مسألة لا تزال في بداياتها حتى الآن ومن المرجح أن تزداد أهمية مع الوقت.