أحيا كثيرون في العالم الذكرى الأولى لمقتل رجل أسود على يد شرطي أبيض في الولايات المتحدة العام الماضي، بمسيرات وتظاهرات وخطب ومقالات.
أن يحيي العالم ذكرى مقتل، ليس فقط جورج فلويد، بل كل إنسان ذهب ضحية التمييز العنصري أو عاناه ويعانيه، فلعمري هذا أمر جميل.
علينا أولا، أن نذكر أنفسنا ونذكر الآخرين أن التمييز بأشكاله المختلفة، خصوصا الشكل الذي يتخذ من العنصر والعرق أساسا، أمر مقيت وغير مقبول، فإنسانيتنا تحتم علينا التعبير عن موقفنا المعارض ليس لفظيا فحسب، بل ممارسة أيضا.
والغضب ربما يعد وسيلة يسيرة ومتاحة للتعبير عن إدانة العنصرية، لكن الغضب حتى إن أدى إلى خروج ملايين الناس إلى الشوارع في الدول الغربية، من النادر أن يغير في مؤسسات تكلست بسبب الإرث الطويل لممارساتها العنصرية أولا، ومجموعة النظم والقوانين والسوابق التي جعلت من العنصرية كأنها حقيقة واقعة، ثانيا.
وهنا أنا لا أقلل من شأن الجماهير وتأثير المسيرات الجماهيرية الغاضبة. الغضب الجماهيري ينتهي أحيانا في تغيير يتحول فيه الغضب إلى فرحة عارمة، لكن سرعان ما تتحول الفرحة إلى قنوط ويأس وحسرة.
رافق غضب جماهيري عارم مقتل فلويد، الذي كتبنا عنه مقالات عدة في جريدتنا الغراء. وبعد عام على مقتله، تحول فلويد إلى أيقونة، حيث هناك حركة شعبية واسعة في الولايات المتحدة وخارجها أسست بعد مقتله.
وحدثت تغييرات كثيرة، منها إدراك الجماهير أن النصب التذكارية التي كانت ولا تزال تزين المعالم والصرح والساحات العمرانية حتى المؤسسات التعليمية في الغرب، تؤسس وتعزز التوجه العنصري الذي يمنح قيما مختلفة للبشر، بسبب لونهم أو عرقهم بغض الطرف عن مؤهلاتهم. بمعنى آخر، إنسانيا، صاحب البشرة البيضاء أرفع شأنا من صاحب البشرة الداكنة.
في هبة الغضب الجماهيري، التي تلت مقتل فلويد، توقع كثير منا أن نهاية العنصرية قد زفت، وأننا مقبلون على عالم تسود فيه المساواة. وكان هناك أكثر من إشارة إلى أننا مقبلون على عالم مختلف، أبرزها تحطيم ورفع عدد لا بأس به من النصب التذكارية التي شيدت لتخليد ذكرى من احتل، لعقود طويلة، المخيلة الشعبية والثقافية والتربوية، كونه بطلا قوميا لا يشق له غبار.
وكم كانت دهشة كثير منا عندما اكتشفنا أن الأشخاص، الذين تخلدهم هذه النصب، ما هم إلا مجرمون أسهموا في تأسيس نظام العبودية والفصل العنصري وتفوق العنصر الأبيض وما رافقه من اضطهاد وتسميد لحقل التركة الثقيلة للكراهية المشفوعة بالعنف المفرط ضد المختلف لونا.
من هذا المنطلق، كانت فرحة العارفين بالتاريخ وأحداثه المريرة، خصوصا التي رافقت الاستعمار الحديث، عارمة عند مشاهدتهم الجماهير وهي تصب جام غضبها على هذه النصب وترفعها من الساحات العامة.
الرموز مثل الأنصاب مهمة، لكن الأهم قراءتنا لها. والقراءة نستمدها من السياق الثقافي والاجتماعي والتربوي الذي نعيشه. إن حطمنا الرموز المادية وأبقينا على مدلولاتها من حيث السياق والثقافة، فإن النصب سيتحدانا، وإن حطمناه سيبقى يحتلنا بمدلولاته، وأحيانا يقاوم الغضب الجماهيري وكأن صاحبه الملطخة يداه بدماء الأبرياء، حي يرزق.
وهكذا، ورغم ما أحدثه مقتل فلويد من حركة جماهيرية واسعة، فإن الرمزية التي مثلها وهو قابع على الأرض وشرطي أبيض يضغط على رقبته بقوة وشراسة حتى فارق الحياة، لم تفلح في إزالة التركة الثقيلة للعنصرية كمفهوم وممارسة في الغرب.
كل هذ المد الشعبي والجماهيري والخطب الرنانة وسيل المقالات في الإعلام وتحطيم كثير من الأنصاب في دول عديدة، يبدو أنه لم يغير قيد أنملة في توجه وموقف مؤسسة غربية عريقة رائدة من حيث النظرة إلى التركة التي خلفتها النظم والممارسات العنصرية في الماضي القريب وليس البعيد.
لا أعلم ماذا سيكون رد فعل القارئ اللبيب بعد معرفته أن جامعة أكسفورد الشهيرة، رفضت وبعناد كل الدعوات التي طالبتها برفع تمثال شخصية عنصرية من مكان بارز في إحدى كلياتها الشهيرة. كل الغضب الجماهيري والطلابي لم يقنع إدارة ورئاسة الجامعة للتخلص من نصب يمثل سيسيل جون رودس، الذي يعد من المؤسسين لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وزيمبابوي "رودسيا سابقا".
ليس هذا فقط، فإن رودس، الذي عاش حتى مستهل القرن الـ20، كان منظرا للعنصرية وتفوق العرق الأبيض على باقي الأعراق، وأن أصحاب البشرة السوداء أقل إنسانية وذكاء من أصحاب البشرة البيضاء.
إن كان الأمر هكذا في جامعة أكسفورد، فكم من العقود، أو بالأحرى من القرون نحتاج إلى تغيير ما في أنفسنا من شوائب عنصرية غرسها فينا أمثال "رودس" هذا؟
إذا كان رفع تمثال شخصية عنصرية مثل رودس، بعد كل الحركة الشعبية والجماهيرية الواسعة، التي خلفها مقتل فلويد، أمرا عسيرا، فكم من العقود، أو بالأحرى من القرون نحتاج إلى إزالة المفاهيم العنصرية التي غرسها؟