باختصار شديد، إن كل الذي يجري في العراق منذ ثمانية عشر عامًا ونيف لا يتسق أبدًا مع المنطق ولا يقبله العقل. فهذه البلاد التي يعانق صيتها السماء باتت نهبًا للجهل والخرافة والفساد مذ وقعت تحت الهيمنة الإيرانية. فممّا لا ينبغي أن يُنسى أبدًا أن إيران التي كانت في التاريخ خصمًا للعراق عندما كان حزب البعث ممسكًا بسلطة الحكم فيه ودخلت معه في حرب ضارية استمرت ثماني سنوات (1980 - 1988)، أصبحت اليوم بقدرة قادر وبفعل أيادٍ عميلة آثمة، ومنذ العام 2003 هي من يتحكم في الشؤون العراقية ويديرها وفق ما يتسق مع مصالح ساسة طهران ويتناقض تمامًا وطبعًا مع مصلحة هذه البلاد العربية العظيمة، كل ذلك بتواطؤ ظاهر من أحزاب طائفية وميليشيات تمسك بمفاصل الدولة وتسيرها وفق الهوى الإيراني.
نعم، الحرب الطويلة المشار إليها لم تكن نتيجتها حاسمة لصالح أي من الطرفين، ورقم ضحايا هذه الحرب مخيف وكلفتها المادية عالية، ولكن الأكيد أن العراقيين لم يهزموا في هذه الحرب، بل إنهم تمكنوا من إهلاك بذرة التعالي لدى ملالي إيران وغطرستهم على الشعوب العربية وتبجحهم بتصدير الثورة إلى بلدانهم، وأظهروا لهم ولأتباعهم العقائديين أينما وجدوا في البلاد العربية أن العراق بلد عزيز منيع لا يمكن سلخه من تاريخه وثقافته وحضارته العربية. لكن، وللأسف الشديد، بعد هذا الإنجاز التاريخي العظيم، تأتي حزيبات طائفية استثمرت في الجهل المقدس وفي أوهام ولائية جعلت القرار السياسي مرتهنا لدى مجموعة من المتحيلين وتجار الدين، وترتكب الولايات المتحدة الأمريكية حماقة كبرى قدمت بمقتضاها العراق على طبق من ذهب لخامنئي وأزلامه المتخلفين؛ ليعيثوا فيه جهلاً وفسادًا وإفقارًا وضغينة وكراهية وتشتيتا تحول معه العراق الموحد إلى أقاليم ومناطق تتنازعها الهويات القاتلة.
الشعب العراقي، وخصوصًا الأحرار الشيعة منهم، ضاقوا ذرعًا من ممارسات الإيرانيين ومن ميليشياتها التي تعمل لصالح إيران فهب الشباب منهم في دوامة احتجاجات ارتقت إلى مستوى ثورة عارمة مستمرة منذ ما يناهز العامين تحت شعار «نريد وطن»، وهو شعار يلخص الى أي مدى صار الحال في العراق مرتهنا إلى إيران.
هذه الثورة وضعت النقاط على الحروف، وتحدثت بلغة عربية فصيحة ولهجة عراقية يفهمها السياسي والمثقف ومحدود الثقافة والميليشياوي وطالبت بخروج الإيراني من العراق وترك العراق للعراقيين بكافة أطيافهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم. وهذا ما زاد من حنق وغضب الأحزاب السياسية الطائفية المرتهنة لفكرة الولي الفقيه، فحركت ميليشياتها لتمارس الاغتيالات، وهي الوظيفة التي من أجلها أنشأتها إيران، إذ دربتها على ممارسة أفعال تبقي الحال على ما هو عليه فلا تستفيد منها إلا إيران بجار ضعيف تصرف فيه أزماتها الداخلية وتستنزف خيراته وتبقيه تحت وصايتها واستعمارها إلى الأبد، ورجال عصابات الأحزاب والميليشيات الذين باتوا ينعمون أموال الجريمة المنظمة وبسلطان موهوم.
آخر الاغتيالات والتي فجرت المشكلة الحالية بين الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي والميليشيات الموالية لإيران، اغتيال إيهاب الوزني والتي اتهم فيها القيادي في ما يسمى بـ«الحشد الشعبي» قاسم مصلحي من واقع أدلة وقرائن دامغة جعلت القضاء نفسه يصدر أمرًا بالقبض عليه. فهل يا تُرى يظن أحد أن تدع الميليشيات الولائية التي تشكل العمود الفقري لما يسمى بـ«الحشد الشعبي» القضية الاتهامية تأخذ مجراها؟! ولهذا ليس مستغربًا أن تثور ثائرة الميليشيات وتستعرض قوتها في المنطقة الخضراء لممارسة الضغوط على حكومة الكاظمي لإطلاق سراح المتهم وليس عجيبا أن تهدد المجتمع العراقي بمواجهة دموية للجيش العراقي نفسه. ونزولاً أمام هذا الضغط تم لميليشيات السوء ذلك. وهذا ما يعكس درجة الضعف التي أصبحت عليها الحكومة العراقية أمام سطوة هذه الميليشيات.
في الأثناء التي كان فيها الوضع الأمني في العراق ملتهبًا، يحضر قائد الحرس الثوري الإيراني قاآني ليمارس دور سابقه المقبور قاسم سليماني، ويفصل في الأمر، وليدير بدلا من السلطات العراقية حل مشهد خلافي على أمر داخلي نشأ بسبب لحظة كرامة أراد فيها هذا البلد العربي ممارسة سيادته على أرضه بإصدار السلطة القضائية فيه أمر القبض على مجرم تجمعت كل الأدلة والقرائن على إدانته ليس باغتيال إيهاب الوزني فحسب وإنما بجملة من الاغتيالات التي راح ضحيتها كثير من المحتجين العراقيين الذي خرجوا مطالبين بوطن. حضور قائد الحرس الثوري الإيراني، لم يكن خوفًا على العراق وتماسكه، ولا دعمًا لحكومة تريد فرض الأمن وإنفاذ سلطان العدالة، بل كان لحماية مجرم عميل من عملائه، وتعطيلاً لعمل العدالة العراقية حتى لا يدب الخوف من القصاص في أنفس من جندتهم إيران من عصابات ميليشياوية لخدمة مصالحها.
إيران ظفرت بالعراق وأرادت له التخلف والتشتت والجهل والفقر والعمالة قدرًا، فهل إن الواقع المزري الذي تخلقه اليوم الأحزاب السياسية الطائفية وتحافظ عليه ميليشياتها سيبقى صامدا أمام رغبة العراقيين في التغيير، وأمام هبة وطنية لم يخفت بريقها رغم الترهيب والاغتيالات؟ وهل بإمكان العمالة والخيانة أن تُطفئ جذوة النخوة والعزة والكرامة والرغبة في عراق حر مستقل منيع بأبنائه قوي بطاقاته وبتاريخه الطويل المجيد؟.
معطيات التاريخ شاخصة وتؤكد أن الكلمة الفصل في المشهد العراقي ستكون للثوار التشرينيين الذين لم ولن تنطفئ جذوة ثورتهم. وسيبقى العراق، التاريخ والثقافة والحضارة، شامخًا محتفضًا بسيادته وكرامته وفاعلا في محيطه العربي كما كان دائمًا.
التعليقات