في 11 يونيو خرج الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي من قصر قرطاج مستبشرا بالتوصل إلى حل يخرج البلاد من أزمتها السياسية والحكومية المتفاقمة، فقد أعلمه الرئيس قيس سعيد بأنه مستعد لاستقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية أمامه بما يسمح لهم بتولي مهامهم، ولكن شريطة أن يتم التخلي عن أربعة منهم تتعلق بهم شبهات فساد وتضارب مصالح وفق تقارير الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد، وتعيين بدلاء عنهم مشهود لهم بالكفاءة ونظافة اليد.

أبلغ الطبوبي رئيس الحكومة هشام المشيشي والفاعلين السياسيين بالموقف الجديد للرئيس الذي سيساعد على طي صفحة الخلاف الحاد بين قصري قرطاج والقصبة، ويبدو أن الأمر وجد ترحيبا جعله يصرّح لوسائل الإعلام بأن هناك انفراجة في الطريق. فمنذ يناير الماضي اندلعت أزمة عميقة هزّت الكيان الحكومي عندما قرر المشيشي مدفوعا من حزامه البرلمان إجراء تعديل عصف بموجبه بالوزراء المحسوبين على الرئاسة.

علينا ألا ننسى أن الرئيس سعيد هو من رشّح المشيشي لتشكيل الحكومة بعد الدفع بسلفه إلياس الفخفاخ إلى الاستقالة، وبالتالي كان يعتبره حليفا له إن لم يكن تابعا ينفذ سياساته ورؤيته، واقترح عليه عددا من الوزراء من بينهم وزيرا الداخلية والعدل، لكنّ امتحان البرلمان جعل المشيشي يخضع لمساومات تحالف الأغلبية الذي تتزعمه حركة النهضة، ويضم قوى أخرى من بينها “قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة” وينقلب على تبعيته للرئيس سعيد، وأولى إشارات الانقلاب الإطاحة بوزراء محسوبين على الرئاسة لا ترتاح لهم النهضة، وكانت البداية من وزير الداخلية.

وفي 26 يناير الماضي، زكّى البرلمان 11 وزيرا جديدا، فرفض الرئيس دعوتهم لأداء اليمين أمامه، وبدأت جميع الأطراف في تأويل نصوص الدستور، وتعددت تصريحات المواجهة تعبيرا عن حدة معركة لي الذراع التي كشفت عن عمق الصراع بين الرئيس سعيد وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي بصفته الحزبية العقائدية والسياسية تلك وبصفته الوظيفية كرئيس للبرلمان وداعم أصلي لرئيس الحكومة.

في تلك الأثناء، كان رئيس حزب قلب تونس نبيل القروي الحليف الرسمي لحركة النهضة قابعا منذ ديسمبر الماضي في السجن على ذمة التحقيق في شبهات فساد وتهرّب ضريبي، وكانت هناك اتهامات مباشرة للرئيس سعيد بأنه من يقف وراء ذلك من باب التشفي ممن وصل إلى منافسته في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية في أكتوبر 2019، وممن وضع يده في يد الغنوشي بما أحدث توازنات لا تصبّ في مصلحة قصر قرطاج. كان الغنوشي أول من اتهم القروي بالفساد، ووعد أنصاره بأنه لن يدخل معه في أي ائتلاف برلماني أو حكومي، وانضم إلى صف الداعمين لسعيد في الرئاسيات، ولكن براغماتية الإخوان جعلته يتراجع عن مواقفه السابقة، ويعتبر زعيم قلب تونس عنوانا للسماحة والوطنية ونظافة اليد.

الدفع بالقروي إلى السجن تزامن مع إطلاق الاتحاد العام التونسي للشغل مبادرة تقدم بها إلى الرئيس سعيد ليرعاها ويشرف عليها وهي عبارة عن حوار وطني للخروج بالبلاد من أزماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان موقف الرئيس أنه لن يسمح بمشاركة من يتّهم بالفساد في ذلك الحوار، وهو يشير بالدرجة الأولى إلى حزب قلب تونس. ومنذ ديسمبر الماضي لم يتم تسجيل أي تقدم في اتجاه تجسيد المبادرة، وإنما اتسعت رقعة الخلاف أكثر، وفي مناسبات عدة تم الحديث عن اقتراح الرئيس سعيد بأن تستقيل الحكومة قبل الحوار، فيما قالت حركة النهضة إنها مع حوار وطني اقتصادي واجتماعي لكنها ليست مستعدة للمشاركة في حوار ذي بعد سياسي.

حاولت قوى خارجية عدة الدخول على خط الأزمة، وكلّما قيل إن هناك اتجاها لتجاوز الصراع، تبيّن أن الأمزجة بين سعيد والمشيشي والغنوشي غير متوافقة ولا يمكن أن تتوافق، وأن الأزمة أصبحت شخصية بالدرجة الأولى، وهي تعبّر عن ثقافة متوارثة وعقلية استبدادية راسخة لا يمكن التغطية عليها بشعارات الديمقراطية البائسة التي يتم اتخاذها فقط لإقناع الخارج بها، كما أنها نتاج مفارقة عجيبة، فأول منصب سياسي يتولاه قيس سعيد في حياته وهو منصب رئيس دولة، وأول منصب سياسي يتولاه راشد الغنوشي هو منصب رئيس برلمان وأول منصب سياسي يتولاه هشام المشيشي هو منصب رئيس حكومة، مع نخبة جاءت بها عاصفة الربيع العربي للحكم دون أن تكون لها تجربة أو علاقة بمفهوم الدولة.

في 11 يونيو كان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل سعيدا بأن الحل ممكن، وبأن الرئيس فتح فجوة في جدار الأزمة، لكن بعد أيام قليلة وتحديدا في 15 يونيو، كانت هناك مياه أخرى تجري تحت أقدام الجميع؛ صباحا كان الرئيس سعيد يخطب في ثلاثة رؤساء حكومات سابقين دعاهم لحوار من نوع آخر ومعهم المشيشي، وظهرا ارتدت محكمة النقض على قراراتها السابقة وقررت الإفراج عن نبيل القروي، وبعد مدة وجيزة اتصل الرئيس بالأمين العام لاتحاد الشغل، ليطلب منه نسيان حديث الجمعة، وليؤكد له أن لا حل للأزمة إلا باستقالة رئيس الحكومة وفريقه الوزاري، وأن أي حوار يجب أن يكون تحت سقف دستور 1959 بعد إجراء تعديلات عليه وعرضه على الاستفتاء الشعبي، وتعديل القانون الانتخابي والسير نحو انتخابات رئاسية وبرلمانية سابقة لأوانها.

رئيس الدولة يريد نظاما رئاسيا لتنفيذ رؤيته للحكم، وهو الذي يرفض من الأساس التحزّب والانتخابات البرلمانية بشكلها التقليدي المعتمد، ويتحمس أكثر لفكرة التصعيد الشعبي، وطموحاته هذه تجد هوى لدى أنصاره في الشارع ورفضا من قبل النخب السياسية، والنهضة متمسكة بالنظام السياسي الحالي لأنه مفصّل وفق مصلحتها وقادر على تمكينها من الاستمرار في الحكم بأقلية من الأصوات، فهي اليوم تحكم 12 مليون تونسي بـ560 ألف صوت من جملة 8 ملايين مؤهلين للانتخاب، وهذا النظام يقلّص من صلاحيات الرئيس المنتخب في دورتين والحاصل على حوالي ثلاثة ملايين صوت، ويضع السلطة التنفيذية في يد رئيس الحكومة وهو غير منتخب على أن يكون محكوما بدوره من البرلمان المشتت والذي تتزعمه حركة النهضة بـ53 مقعدا من بين 217، فيما تحول الغنوشي الذي فازت قائمته في دائرة تونس 1 بأقل من 30 ألف صوت إلى ثالث الرؤساء، والرئيس الفعلي للبلاد من خلال سيطرته على المشهدين الحكومي والبرلماني، وتدخله في العلاقات الخارجية والدبلوماسية.

بات واضحا أن أزمة تونس مقبلة على المزيد من التفاقم نتيجة ديمقراطية موبوءة يتستّر وراءها مستبدون لم تعرف لهم البلاد نظيرا خلال العقود الماضية، لأن ولعهم بالحكم ورغبتهم في إقصاء الآخر والمختلف يتسربلان في جلابيب الجهل بإدارة الدولة وعدم المعرفة بنواميسها، مع تقديمهم لمنطق المغالبة بدل الحوار، وعجزهم عن تحقيق أي هدف تنموي أو أي مصلحة خدمية للشعب المطحون، وهو ما يضع البلاد على شفا الانهيار المالي والاقتصادي والانفجار الاجتماعي، وما الأزمة الصحية المتفاقمة بسبب تفشي الجائحة سوى دليل على أن الطارئين على السلطة باتوا حملا ثقيلا، وكلما زادوا يوما في كراسيهم، زادت الكوارث والمصائب باسم ديمقراطية العجائب والغرائب.