مثلت مرحلة ما بعد «الجهادي الأفغاني» وعودة المقاتلين العرب، نقطة تحول في خطاب التكفير منذ منتصف الثمانينات واحتدام نقاش المعسكرات المتناحرة هناك يجد صداه تدريجياً في أوساط الحركة الإسلامية الصاعدة أو ما يسميها أستاذنا رضوان السيد بـ«الإحيائيات». حتى أوائل التسعينات كان مرجل خطاب التكفير يغلي. ومع انبعاث مرويات إخراج المشركين من جزيرة العرب بعد حرب الخليج أخذ الخطاب يتغلغل نتيجة التلاقي بين التيارات الإسلامية في الموقف من التحالف مع الأميركيين لتحرير الكويت. لكن بلغ الخطاب انتعاشه الإعلامي ورواجه بين شبيبة الإسلام بعد عام 1996، حيث انطلاق أعمال تنظيم «القاعدة» ضد «قوى الصليب» وعلى رأسها الولايات المتحدة.
في أوائل الألفية كنا طلاباً في كلية الشريعة، وأذكر ذلك الصباح الذي أتينا به إلى قاعة المحاضرات ووجدنا كالمعتاد منشورات سبقتنا إلى طاولاتنا. كانت المطوية عبارة عن فتوى صادرة من رجل الدين المقرب من التيارات الجهادية حمود العقلاء الشعيبي، بسبب ثلاثية تركي الحمد الروائية، وما كانت خطورة الفتوى في التكفير فحسب، بل الجديد آنذاك على الحركة الأصولية إعلان إهدار دم الحمد وجعل مهمة التخلص منه موكولة لأي شخصٍ مسلم قادر على ذلك، وحدث نقاش طويل بين طلاب العلم آنذاك بين مؤيد ومعارض، ولكن لا شك أن خطاب الحركة الجهادية كان حاضراً وآية ذلك أن قاعات الدرس تتناقص يومياً ومن المألوف أن نسأل عن زميل في أي صباح ليكون الجواب أنه قد التحق في ساحة الجهاد في الشيشان أو أفغانستان فيما بعد.
ومع انتعاش تنظيم «القاعدة» في المنطقة راجت التهديدات بالاغتيال، ولذلك مواقف شهدت عليها لزملاء قاوموا المد الجهادي في ذروة سطوته (وليس كما يدعي البطولات بعض الكتّاب الآن حين رفع السياسي الغطاء عن الأصوليين بدأ البعض يسل سيوفاً من ورق بينما قبل تولي الأمير محمد بن سلمان كانوا يطئطئون الرؤوس ويبدون الاعتذارات، ويخضعون للاستتابات)، المهم أن القصص حول التهديدات كثيرة. أحد الأصدقاء وجد عبد العزيز المقرن أمامه في مطعم وقد فهم منه قرب المواجهة، وأذكر أنني سمعتُ صديقاً في عشاء يتحدث عن وجود اسمه على لائحة بمواقع تضم لفيفاً من «القاعدة» وأنصار طالبان مع تحديد موقع بيته. لاحقاً التقيت أحد كبار الإعلاميين في مناسبة ورويت له قصة صديقنا فطلب معلومات عن الموضوع وسلمها للمهتمين وتمت حمايته، وثالث لم يعرف عن حماية الأمن له إلا بعد بضع سنوات، وآخر رأى بالصدفة وهو يسير بشارع الحمراء ببيروت قياديين اثنين من تنظيم «القاعدة» خشي أنهما رمقاه وهما يعرفانه ويعرفهما كان حذره أسبق حيث يمم وجهه خارج لبنان سريعاً، ولا يمكن عد التهديدات ولا الاغتيالات التي واجهها مجموع المفكرين بالعالم العربي والإسلامي، منذ اغتيال المفكر الجزائري الشاب بختي بن عودة صاحب الأطروحة الثمينة عن جاك دريدا، حيث استهدف وهو يلعب كرة القدم مع أصحابه، وليس انتهاء بتهديد نصر أبو زيد وزوجته وإنما القائمة تطول.
إن كل استهداف يسبقه تحريض، كما حرض الغزالي على فرج فودة، وعبد الصبور شاهين على نصر أبو زيد، وحمود العقلاء على تركي الحمد، وعبد الرحمن البراك على عبد الله بن بجاد... إلخ.
في العشرين من يوليو (تموز) من عام 2004 داهمت القوات السعودية فيلا بحي الملك فهد بالرياض، على أثرها اغتيل جمع من قيادات تنظيم «القاعدة» ومن بينهم عيسى العوشن، معها وبعدها عثر من ضمن الأوراق على لائحة تضم أسماء لكتّاب ومفكرين مهددين بالاغتيال، منهم تركي الحمد، ومشاري الذايدي، حينها خصصت القنوات ومنها «العربية» و«إم بي سي» فقرة في التلفاز والإذاعة عن ذلك التآمر المشين.
وما كانت «القاعدة» وحيدة عصرها في هذه اللغة الجهنمية، وإنما ورثتها من تاريخ راسخ يجعل التعبير عن الرأي بحد ذاته مبرراً للخطف والاغتيال... يعلم الجميع أن رأس الرهينة الأميركي جونسون الذي اختطفتْه «القاعدة» وجده رجل أمن منهك يبحث عن قنينة ماء داخل الثلاجة بجوار علبة كاتشاب، في المداهمة نفسها.
قبل أيام بثت قناة «العربية» فيلماً وثائقياً مهماً عن الراحل فرج فودة، وأعرف منذ سنوات مدى أهمية هذه الشخصية لدى الأستاذ ممدوح المهيني وقد كتب عنه من قبل، وكان يهمّ منذ سنواتٍ بعملٍ مثل هذا عن الراحل الكبير.
حين يتحوّل هذا الاهتمام العميق إلى فيلم وثائقي يجعل الرسالة أرسخ، والفكرة أوقع. لقد مثل فرج فودة طوال ثلاثة عقود صورة شهيد الكلمة الحقيقي، إنه مفكر أربك الحركة الأصولية لأنه «عميق وبسيط» كما يعبر الأستاذ رضوان السيد في تعليقه على الفيلم.
الآن نحن أمام تحوّل كبير يقوده الأمير محمد بن سلمان، وحين تقود السعودية مشروعاً تنويرياً للإسلام فإن جميع المسلمين سيتأثرون به، لا بد من مراجعة النصف قرن المنصرم بقضّه وقضيضه وأن نواجه أسئلة الانهيار الفكري بشجاعة وبسالة، لا يكفي أن نتحدث عن الاعتدال والتنوير والتسامح بل أن نحوّل هذه المفاهيم إلى خطط عمل ومسارات تصحيح، ولا يمكن التعويل فقط على المؤسسات الدينية التي تحتاج إلى تطوير وإنما على السياسيين أيضاً القادرين على قيادة شعوبهم نحو الانعتاق من خطاب الضلال.
إن أفضل طريقة لتصحيح أي خلل تكون بمواجهته، لكن الكارثة التي نعاني من أثرها الآن أن قائداً واحداً لم يقرر مواجهة هذه الانهيارات الفكرية داخل الخطاب الديني، حتى جاء الأمير محمد بن سلمان.
من أقوال فرج فودة التي يستشهد بها: «للإرهاب أنياب ومخالب، تتمثل في إطلاق الشائعات الكاذبة المدروسة، التي تمثل - إذا استعرنا أسلوب حرب العصابات - ستار الدخان الذي يحمي الإرهابيين، سواء في إقدامهم على الفعل، أو في الهروب بعده، بأقل قدر من الخسائر، وبأكبر قدر من تجميد وتحييد الاستنكار الشعبي».
أتمنى من الأجيال الاطلاع على كتاباته البسيطة والعميقة في آن.