على جميع الاتجاهات، يتحرك رئيس الحكومة الليبية عبدالحميد الدبيبة، داخليا وخارجيا، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، إعلاميا وثقافيا، واقعيا وافتراضيا. يرسل الكثير من الوعود الوردية إلى الفئات الهشّة من المجتمع. يحاول كسب ود الشباب في مختلف أرجاء البلاد. ولعلّ صندوق الزواج أهم مشروع بدأ تنفيذه فعلا ويتم استغلاله على نطاق واسع للترويج لصورة “الزعيم” الذي يشتغل على نفسه من منطلق أنه سيحكم إلى ما لا نهاية، وليس فقط إلى حين تحول حكومته إلى حكومة تصريف أعمال في الرابع والعشرين من ديسمبر القادم، وفق حيثيات منحها الثقة من قبل مجلس النواب في منتصف مارس الماضي.

يبدو المهندس الدبيبة حاليا في أعلى مستويات النشاط المصحوبة بحملة واسعة لتلميع الصورة وتثبيتها كواجهة للمستقبل، تنفذها آلة إعلامية ضخمة في الداخل والخارج، وجيوش إلكرتونية على مواقع التواصل الاجتماعي. علينا أن ننتبه إلى وجود صانع متميز للصورة وهو وليد اللافي الذي يشغل منصب وزير دولة للاتصال والشؤون السياسية والقادم من تجارب سابقة كمدير لقناة “النبأ” ثم لقناة “سلام” التي يمتلكها رجل الأعمال والملياردير علي الدبيبة. وهو ليس وليد الإخوان كما يعتقد البعض، وإن كان يتقاطع معهم في جملة من الأفكار والأهداف، وإنما يمثّل لوبي المال والأعمال ولاسيما في مصراتة الذي يدير كل التحركات الحالية لرئيس الحكومة.

هناك شغل كبير على صورة الدبيبة التي أصبحت تخضع للعبة الإضاءة وتوازنات الظلال المحيطة بها، وإلى زوايا التصوير وحركة الكاميرا، وإلى تقطيع المشاهد وفق سيناريوهات تعدّ سلفا، وتعتمد على توجيه الحركة وإشارات الملامح نحو أهداف الخطاب، وذلك وفق التعاطي مع أحدث تقنيات التأثير في الرأي العام المعتمدة عالميا ولاسيما من قبل نجوم الفن وقادة الرأي وصانعي السياسات. حتى النزعات الشعبوية التي يراد للدبيبة الانخراط فيها بين الحين والآخر لمخاطبة فئات معينة من المجتمع يتم الإعداد لها جيدا، ومن ذلك محاولة إظهار الرجل الستيني وكأنه في الثلاثينات من عمره. بعد ثمانية أعوام سيكون في السبعين، ولكن ذلك لا يعني شيئا لتطلعات من دخل عالم السياسة متأخرا ويطمح إلى أن يكون ذا تأثير بالغ في مساراتها المستقبلية في بلد ثري يعتقد البعض أنه لا يحتاج إلى سياسيين وإنما إلى رجال أعمال يديرون الحكم من باب الإدارة التنفيذية للدولة.

لم يعد خافيا أن الدبيبة اليوم هو ممثل لوبي المال والأعمال القوي في غرب البلاد ولاسيما في مصراتة وطرابلس، ولديه علاقات قوية في الخارج وبخاصة في تركيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة، وهو الذي يدير المفاوضات مع كبريات الشركات العالمية، وكان وراء فكرة تنظيم قمة للنفط والغاز الليبيين في هيوستن الأميركية في أكتوبر، تليها قمة ليبيا في نوفمبر، وهو كذلك الذي يقف وراء تحريك خيوط التوازنات في الداخل والخارج، ويمتلك منصات الإعلام والاتصال. فالدبيبة نفسه يمتلك قناة “فبراير” وابن عمه يمتلك قناة “سلام” ذات التمويلات الباذخة، ومن وراء الستار يبدو رجل الأعمال البارز محمد الطاهر عيسى المعروف بلقب ملك الاعتمادات، وصاحب الدور الأساسي في الترويج لصورة رئيس الحكومة، والمحتكم على علاقات قوية ومتينة مع محافظ مصرف ليبيا المركزي ومع ديواني الرقابة والمحاسبة، وكذلك المحرك الأساسي لمجتمع المال والأعمال في مصراتة، وهو الذي يمتلك الكثير من الأوراق في المشهد العام: لا شيء في ليبيا متروك للصدفة، وإذا اعتقدت أن هذا الاستنتاج غير دقيق عليك أن تعود إلى طبيعة الصراع على الثروة ليس من الداخل فقط ولكن كذلك من الخارج.

يبدو المهندس الدبيبة حاليا في أعلى مستويات النشاط المصحوبة بحملة واسعة لتلميع الصورة وتثبيتها كواجهة للمستقبل، تنفذها آلة إعلامية ضخمة في الداخل والخارج

رغم أن مجلس النواب المنعقد في شرق البلاد لا يزال يرفض التصديق على ميزانية الدولة للعام 2021 إلا أن الحكومة تتصرف في التمويل عبر آلية 1/ 12 بمعنى الحصول على قسط شهري وفق الميزانية المعتمدة في العام السابق، وقد أنفقت خلال الأشهر الماضية أكثر من 50 مليار دينار ليبي دون تحقيق أي منجز فعلي على الأرض، وهو ما أثار جدلا واسعا في البلاد. ولكن خطاب الدبيبة يحاول أن يلامس عواطف الليبيين ليتجاوزوا الأرقام التي لا تكذب إلى الأحلام التي قد تنعش تطلعات المجتمع إلى مستقبل أفضل.

لم يكن صرف ما يقدر بحوالي 20 مليون دولار أميركي خلال اجتماعات ملتقى الحوار السياسي في تونس وجنيف لضمان أصوات الأعضاء عبثا أو هدرا للمال الشخصي لمن يحركون خيوط اللعبة، وإنما هو عمل يراد من خلاله سيطرة رأس المال الممثل في المهندس عبدالحميد الدبيبة على المشهد، ومن ورائه طبقة كاملة من رجال الأعمال أغلبهم ممن حققوا ثروات طائلة خلال السنوات الماضية من خلال الاعتمادات والمضاربة بالعملة، البعض كان يحصل على اعتمادات بمبالغ ضخمة وفق السعر الرسمي للصرف، يتم إعادة جزء مهم منه إلى البلاد لبيعه بسعر السوق الذي كان يصل إلى أربعة أو خمسة أضعاف السعر الرسمي، وهو ما أدى إلى ظهور أثرياء الأزمة ممن يديرون اللعبة بأدق تفاصيلها حاليا.

لا يريد المجتمع الدولي التدقيق كثيرا في ذلك، فقد تم إخفاء تفاصيل التحقيق الأممي حول الفساد في ملتقى تونس للحوار السياسي المنعقد في نوفمبر، كما لم يتم الكشف عن تفاصيل المراجعة الدولية لمصرف ليبيا المركزي، وهناك تجاذبات واضحة من عواصم عدة حول صلاحيات محافظ المصرف ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط، وفوق ذلك هناك غطاء دولي غير خفي للفساد المطبق على البلاد. فمصالح أغلب الدول باتت ترتبط بالفاسدين لا بالأسوياء في بلد ينظر إليه الكثيرون على أنه غنيمة حرب الإطاحة بالقذافي.

في ظل هذا الواقع، اختارت مراكز نفوذ المال والأعمال أن يستمر الوضع على ما هو عليه، وهي داعمة أصيلة للدبيبة باعتباره مقربا من الفاعلين الرئيسيين في تلك المراكز، وتدعم بقاءه في الحكم من خلال تعطيل الانتخابات، ولكنها كذلك تعمل على تلميع صورته ليكون رمزا للوائح انتخابية للبرلمان القادم وأن يكون رجل التوافق بين الأطراف الفاعلة في غرب البلاد مهما كانت مرجعياتهم الأيديولوجية والجهوية والمناطقية والحزبية والميليشياوية ومصالحهم الخاصة، وكذلك صانع الأحلام لشباب بقية المناطق ولاسيما في برقة وفزان. أما منصب رئيس الدولة فكل المؤشرات تدل على الاتجاه إلى تقييد صلاحياته، حتى القانون المعتمد من قبل مجلس النواب يؤكد ذلك ويشدد عليه، وليس مهما للمرحلة القادمة من سيكون رئيس البلاد، وإنما من سيكون صاحب الأغلبية البرلمانية ورئيس الحكومة وصاحب النفوذ على مفاتيح الثروة.

يسعى الدبيبة بكل قوة لكسب ود الشباب كخزان انتخابي. والشاب بطموحاته إلى الزواج والوظيفة والقرض المصرفي والمشروع المستقبلي يمكن أن يكون القاطرة التي تقود بقية الأسرة، وهذا ما يوفره رئيس الحكومة برؤيته لتكريس مفهوم الدولة الريعية، وهو ما يخدم النخبة الداخلية والقوى الخارجية التي تقف وراءه والتي ترى في الوفرة المالية بالبلاد مفتاحا لطرق أبواب المستقبل التي سيكون الدبيبة عنوانا لها، وهو أمر مرتبط بمسار تام من أساسياته تقديم الاقتصاد على السياسة، والانطلاق بقوة نحو مجتمع السوق المفتوحة.