تعد أسرة القرعاوي من الأسر القصيمية المعروفة التي قدمت لوطنها السعودي العديد من الشخصيات في أكثر من حقل، ومنها على سبيل المثال العلامة الشيخ عبدالله محمد حمد القرعاوي (المولود في عنيزة عام 1897 والمتوفي في الرياض عام 1970)، والذي تنقل طلبًا للعمل في الهند والأحساء وقطر ومصر وفلسطين والعراق والكويت وتتلمذ على يد شيوخ كبار من أمثال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (مفتي السعودية الأسبق) والشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع (مدير عام المعارف السعودية وقاضي قضاة قطر سابقًا) والشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن آل بشر (من شيوخ نجد وقضاة الأحساء الكبار سابقا) والشيخ عبدالله بن امير القرشي الدهلوي (من كبار علماء الحديث في الهند)، وكان صاحب جهود في الدعوة والتدريس وافتتاح المدارس في سائر أنحاء وطنه، ولاسيما في المناطق الجنوبية من السعودية التي ذهب إليها بأمر من الملك عبدالعزيز رحمه الله لتوجيه أهلها إلى صحيح الدين وتخليصهم من البدع. وهناك أيضًا عبدالله عبدالعزيز الحمد القرعاوي الذي سكن مدينة الخبر وعمل كاتبًا للعدل بها بين عامي 1958 و1969 بأمر من أمير المنطقة الشرقية الراحل سعود بن عبدالله بن جلوي، وعـُرف عند الناس بالطيبة والنزاهة.

على أن حديثنا هنا يتمحور تحديدًا حول شخصية أخرى من آل القرعاوي، وهم عشيرة من آل نجيد من المصاليخ الذين يعدون بطنًا كبيرًا من قبيلة عنزة، إحدى قبائل ربيعة. وكان يقال لهم آل نجيد إلى أن انتقل أحد أجدادهم من عنيزة إلى بلدة القرعاء (على بعد 30 كلم من بريدة) فنسبوا إلى هذه البلدة وصاروا يعرفون بالقرعاوي. وقد وجدتُ في أحد المصادر ما مفاده أن فروع آل القرعاوي متواجدون في مدن بريدة وعنيزة والبكيرية والخبراء والبدائع بمنطقة القصيم ولهم امتدادات وأملاك في العراق وبلاد الشام لأنهم كانوا ضمن تجار العقيلات قديمًا.

الشخصية التي سنتناولها في مايلي هي الأديب والشاعر ورجل الصحافة والإدارة الراحل الأستاذ عبدالله بن حمد القرعاوي المكنى بأبي طارق، والذي وصفه الأستاذ فهيد بن فهد الشريف في الجزيرة الثقافية (5/‏5/‏2003) بأنه «مدرسة وإن كان قليل العطاء أو هكذا يبدو، فهو أديب وشاعر ومعلم وموظف متمرس، وفوق ذلك فهو ذو أخلاق عالية ونفس طيبة وعلاقات اجتماعية متميزة».

ولد القرعاوي في السابع عشر من فبراير 1932 بمدينة عنيزة، ودرس أولاً في الكتاتيب التقليدية التي كان يتمنع ويتكاسل في الذهاب إليها، غير أن والدته الحافظة للقرآن الكريم لعبت دورًا في ترغيبه بالتعليم ومنع انقطاعه عنه باستخدام وسائل التهديد والإغراء معًا، بل كانت تقوم بإعطائه بعض الدروس البسيطة في البيت. وحينما تأسست المدرسة السعودية الابتدائية بعنيزة تحت إدارة المربي صالح بن حسن التحق القرعاوي بها بتشجيع من والدته، حيث درس لمدة عامين أتبعهما بالسفر في عام 1939 إلى مكة المكرمة عند خاله عبدالله الخويطر (والد الوزير والمستشار الراحل الدكتور عبدالعزيز الخويطر)، وذلك بهدف مواصلة دراسته هناك، فأكمل دراسته الابتدائية بالمدرسة السعودية الابتدائية بالمعلاة في عام 1941 ليستكمل مراحل تعليمه المتوسط والثانوي فورًا بمدرسة تحضير البعثات بمكة التي كانت قد فتحت أبوابها عام 1937 من أجل تجهيز خريجي الثانوية للابتعاث إلى الخارج.

وخلال فترة إقامته ودراسته في مكة تعرف صاحبنا لأول مرة على أشياء وأمور لم يعهدها في مجتمعات عنيزة فانبهر بها، فقد مارس مثلاً ألعابًا شعبية مغايرة مع زملائه من صبية مكة، وجرب بعض مظاهر المعيشة المتمدنة، واستمتع بممارسة دور القائد (العريف) في صفه الدراسي، واطلع للمرة الأولى على صحيفة الأهرام المصرية عند خاله فشده ما كان بها من مقالات وصور، وعرف الطريق إلى القراءة الحرة من خلال زميله محمد العبدالرحمن الفريح الذي قاده إلى كنز معرفي من الكتب الأدبية المترجمة وأعداد قديمة لمجلة الرسالة المصرية وصحيفة صوت الحجاز كان قد تركها قريب للفريح بسبب سفره للدراسة بمصر. علاوة على ما سبق اعتاد على ارتياد «باب السلام» لشراء الكتب والمجلات القادمة إلى الحجاز من مصر من مكتبة صالح محمد جمال وعبدالرزاق بليلة اللذين عرفا بتشجيعهما الطلبة على العلم والمعرفة وتسهيل حصولهم على ما يريدون من مطبوعات، بل إمهال غير المقتدر مهلة للسداد.

تحول شغف القرعاوي بقراءة الكتب والمجلات والصحف والدوريات المتنوعة إلى شغف بإعداد وتحرير المجلات المدرسية، وقد أتى بنفسه على سرد ذكرياته بمكة حول هذا الموضوع من خلال مقالات نشرها لاحقا بمجلة الفيصل، فقد ذكر مثلاً أنه بالاشتراك مع زملائه في ثانوية مكة من أمثال محمد العبدالرحمن الفريح وحمد الصالح القاضي وعبدالله عبدالعزيز النعيم وعلي صالح المتروك أصدروا مجلة أطلقوا عليها اسم «الشباب»، وراح كل منهم يكتب فيها ما يحلو له من مقال أو شعر أو قصة. يقول أستاذنا محمد عبدالرزاق القشعمي في «الجزيرة الثقافية» (21/‏4/‏2003) إن تلك الهواية انتقلت معه إلى مصر بدليل أنه أصدر مع زملائه في «بيت البعثة السعودية» صحيفة حائط أطلقوا عليها «المرآة»، ثم صحيفة أخرى باسم «الحقيقة» تولى تصميم خطوطها زميلهم المهندس محمد سعيد فارسي (أمين مدينة جدة سابقًا).

وبتخرجه من مدرسة تحضير البعثات في عام 1950، كان القرعاوي مع حدث مفصلي آخر في حياته تمثل في ابتعاثه إلى جامعة فؤاد الأول بالقاهرة، مع ثلة من الشباب السعودي الذين استلموا لاحقًا مناصب عليا في الدولة من أمثال الدكتور عبدالعزيز الخويطر والأستاذ محمد العلي أبا الخيل والدكتور طبيب حمد عبدالله الصقير. وحول ذلك كتب القشعمي (مصدر سابق) أن القرعاوي قام بزيارة سريعة إلى الرياض قبل سفره إلى مصر لرؤية والدته وشقيقه صالح الموظف آنذاك بوزارة المالية، ويشاء الله أن تتوفى والدته في أثناء زيارته لها، فلا تغادر الدنيا وهو بعيد عنها في ديار الغربة. وهكذا ركب الطائرة للمرة الأولى في حياته عائدًا إلى جدة، بنفس كسيرة والألم يعتصر قلبه بفقدان أمه التي كانت سببًا في إتمام تعليمه ووقوفه على أعتاب المرحلة الجامعية. ومن جدة إلى مكة لإتمام أوراق ابتعاثه على عجل، وما هي إلا أيام ويجد نفسه مرة أخرى راكبًا الطائرة باتجاه أرض الكنانة. وفي تلك الأيام كان على الطائرة المقلعة من جدة إلى القاهرة أن تهبط أولاً في الطور لحجز الركاب في محجر صحي هناك قبل السماح لها بمواصلة الرحلة إلى مطار الماظة بالقاهرة. وحول وصوله إلى القاهرة وما قابله هناك كتب القرعاوي: «ونزلنا المطار في اليوم الثامن من أكتوبر 1951 ونحن في دهشة غريبة مثل (البدوي) الذي عـُصبت عيناه وأنزل في أكبر ميدان بنيويورك أو في ميدان البيكاديللي بلندن، وهناك أزيلت العصابة من عينيه».

وأول ما فعله القرعاوي في القاهرة هو الذهاب إلى دار البعثات السعودية بشارع المساحة في حي الدقي للقاء مديرها الأديب عبدالله عبدالجبار الذي وصفه بصاحب الخبرة الطويلة والتخصص التربوي «ما يجعله خير من يسند إليه مثل هذا المنصب» بحسب قوله، وأيضًا للتعرف على من سبقه من طلبة سعوديين.

اختار القرعاوي في بداية الأمر أن يلتحق بكلية الحقوق التابعة لجامعة فؤاد الأول التي لم ينجح فيها في سنته الأولى بسبب إحباط أصابه جراء ما كان يجري في القاهرة آنذاك من مظاهرات واضطرابات سياسية ضد النظام الملكي، فآثر أن يبتعد عن تلك الأجواء بالانتقال إلى جامعة الإسكندرية للالتحاق بكلية الآداب، خصوصًا وأن اثنين من أصدقائه (حمد الصقير وعبدالله العماري) كانا يدرسان في جامعة الإسكندرية.

في عام 1960 تخرج من جامعته حاملاً ليسانس الآداب من قسم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس، لكنه آثر ألا يعود مباشرة إلى وطنه، حيث سافر مع شقيقه صالح إلى ألمانيا لدراسة اللغة الألمانية بمعهد غوته، وخرج من هناك بانطباعات وصور جميلة عن الحياة في هذا البلد المتقدم الذي كان وقتها قد استعاد شيئًا من ألقه بعد ما تعرض له من دمار وآلام خلال سنوات الحرب الكونية الثانية. وفي عام 1962 عاد إلى وطنه ليبدأ مشوار العمل فتم تعيينه أولاً في وظيفة إدارية بإدارة المؤتمرات الخارجية في وكالة وزارة العمل بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وسرعان ما حصل في عام 1965 على بعثة دراسية خارجية جديدة، كانت وجهتها هذه المرة الولايات المتحدة الأمريكية التي قضى فيها حوالي سنتين ونصف السنة لدراسة الماجستير في جامعة جنوب كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس. وفي أعقاب هذا الإنجاز، عاد للعمل بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية فتمّ تعيينه في إدارة البحث والتوجيه والإرشاد بوكالة الوزارة لشؤون العمل، قبل أن يُسند إليه منصب «مدير عام مساعد لشؤون العمل» بوزارة العمل والشؤون الاجتماعية. وفي عام 1967 تقلد منصب «مساعد مدير عام مركز التدريب المهني» بالرياض، ومنه إلى منصب «مدير عام المركز» حتى عام 1971 وهو العام الذي نـُقل فيه إلى وظيفة مدير عام الإدارة المساعد لجامعة الرياض، وهي الوظيفة التي ظل يشغلها لمدة خمس سنوات انتهت في عام 1976 بنقله إلى وزارة الصناعة والكهرباء لشغل وظيفة مدير عام للإدارة بالوزارة في عهد وزيرها الدكتور غازي القصيبي. وفي أثناء هذه الفترة من حياته المهنية، أتاحت له الدولة حضور دورات في الإدارة العامة بالمعهد الملكي البريطاني للإدارة العامة في لندن وأكسفورد وكارديف.

بعد ذلك توالت ترقياته الوظيفية، ففي عام 1979 أصبح وكيلاً مساعدًا للشؤون المالية والإدارية بوزارة الصناعة والكهرباء بالمرتبة 14، وبعدها بعام تمت ترقيته مجددًا إلى وظيفة وكيل وزارة الصناعة والكهرباء للشؤون المالية والإدارية، ليـُختار في 20 أغسطس 1993 عضوًا بمجلس الشورى.

والجدير بالذكر أن القرعاوي بعد عودته من الإسكندرية طلبه صديقه الوزير والسفير الأسبق الأستاذ ناصربن حمد المنقور للانضمام إلى مجموعة كانت تفكر وقتها بتاسيس «مؤسسة اليمامة السعودية» برئاسة الشيخ حمد الجاسر، فكان هو أصغر أعضاء المجموعة سنًا. وتمر الأيام وترى المؤسسة النور ليتولى الرجل رئاستها دون تفرغ لمدة 15 عامًا خلال فترات عمله بوزارة العمل وجامعة الرياض ووزارة الصناعة والكهرباء. وهكذا لم يتخلَ عن هوايته الصحفية التي بدأت في مرحلة الدراسة الثانوية، إذ راح يكتب في صحيفة الرياض الصادرة عن مؤسسة اليمامة زاوية ثقافية اجتماعية ثابتة تحت اسم «قوس قزح»، وهي الزاوية التي انتقلت لاحقًا إلى مجلة اليمامة فإلى المجلة العربية في عام 1996. ومما رواه أصدقاؤه عنه أنه كان صديقًا للصحفيين يمازحهم ويشجعهم ويسرد عليهم ذكرياته الدراسية في مصر وكيف كان يتمنى احتراف الصحافة بدلاً من أن يكون مجرد هاوٍ.

لم يكتفِ القرعاوي بكتابة زاويته «قوس قزح»، وإنما كتب أيضًا مذكراته على 44 حلقة بمجلة الفيصل الشهرية الرصينة (جمعها وأصدرها في عام 2003 في كتاب حمل عنوان «ذكريات نصف قرن»)، ونشر القليل من شعره في الملحق الأسبوعي لصحيفة المدينة وفي مجلتي «العربية» و«الفيصل»، علمًا بأنه كثيرًا ما تجنب نشر نتاجه الشعري بحجة أنه شعر متواضع، على الرغم من أن الباحث وعالم اللغة اللبناني إميل يعقوب وصف شعره بالجيد، وعلى الرغم أيضًا من أنه تم تناول ودراسة شعره في كتاب «التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية» لعبدالله عبدالجبار والصادر سنة 1959، وفي كتاب «شعراء العصر الحديث في جزيرة العرب» لعبدالكريم الحقيل والصادر سنة 1979، وفي كتاب عبدالله بن إدريس «شعراء نجد المعاصرون» الصادر عام 1960، علاوة على نشر قصيدتين له في كتاب «مسامرات أدبية» لعبدالله بغدادي.

والمعروف أن صديقه وابن خاله الدكتور عبدالعزيز الخويطر جمع قصائده وأصدرها عام 2006 في ديوان حمل عنوان «صدى البوح»، بل قام بكتابة مقدمته أيضًا والتي جاء فيها: «إن هذا الديوان نفثات من الشعور تسجل ما مر بصدر الشاعر في يوم من الأيام من أمور سرته وأخرى آلمته، ومن بين ما في الديوان تأملات أوحت بها الحياة، والتأمل فن، والفن يتفاوت الناس في رسم صورة وفهم ما هو مرسوم منها»، مضيفًا: «القصائد قيلت في أوقات مختلفة وأغراض متعددة، ومن حقها علينا أن نقول إنها ترصد سير فكر الشاعر في حياته، وتمثل حقبة من حقب الفكر في المملكة، فهي بهذا بناء من لبنات فكونت مظهرًا واضحًا في تفكير أهل المرحلة من سيرنا الحضاري».

عانى القرعاوي من مرض السكر ومن فشل كلوي لازمه 3 سنوات منذ العام 2003، كان خلالها يتلقى ثلاث جلسات للغسيل أسبوعيًا، إلى أن أصيب بالتهاب حاد في الرئة، فأدخل غرفة العناية المركزة في يناير 2006، لكنه تعرض إلى قصور في معظم أجهزة جسده، ليتوفى إلى رحمة الله تعالى في يوم 17 فبراير 2006 بمدينة الأمير سلطان للخدمات الإنسانية عن عمر ناهز 75 عامًا.

وهكذا رحل رجل من الرعيل الأول استطاع أن يترك سيرة مهنية إدارية وإعلامية حافلة أنتجت تلامذة كبروا على يديه منذ بدايات كتاباته النقدية (التي نشرها بعنوان للحقيقة والتاريخ بمجلة صوت البحرين عام 1950)، طبقًا لما كتبه صديقه وزميله بجامعة جنوب كاليفورنيا، وزير التجارة والمالية السعودي الأسبق الدكتور سليمان السليم في الجزيرة الثقافية (19/‏5/‏2003).

المحزن حقًا أنه رحل دون أن يكرم كما يجب، عدا تكريم خطابي أقامته له إثنينية عبدالمقصود خوجة عام 1995، وتحدث فيه المربي الكبير عثمان الصالح، والدكتور رضا عبيد، وزميله في جامعة الإسكندرية الأديب والطبيب والإعلامي د. عبدالله مناع وزميله بمدرسة تحضير البعثات الكاتب والإعلامي والشوري حمد عبدالله القاضي.

وأخيرًا، فهذا نموذج من شعره كما ورد في قصيدة له بعنوان «بحر الهوى»:

أرى البحر في زرقة سابحًا

وفي اللون إبداعه الباهر

تشابه أمواجه العاليات

جبالاً علا خلفها ساتر

تصارع أمواجه العاتيات

فيسبق أولها الآخر

يقولون: بحر الهوى آسر

فويل لقلبك.. يا عابر

تضيع على شاطئيه القلوب

كأن الردى حده الباتر

ومن قصيدة كتبها بعنوان «أشجان نخلة» زمن دراسته بكاليفورنيا اخترنا لكم هذه الأبيات:

(غرب الدار) لا وطنًا وأهـلا

نزلت بسـاحنا ضيفًا فأهلا

أراك تصوب النظرات نحوي

كأنك لم تشاهد قبل نخلا

أو أنك سابح في التيه روحا

أو أنك في الفلا مجنون ليـلى

يناغي طيفها صبحًا وليلا

يؤمل من رؤى الأشباح وصلا