يحاول المعارضون لقيس سعيد، وأغلبهم من الأحزاب التي حكمت خلال السنوات العشر الأخيرة، التحرك للضغط عليه من أجل أن تكون إجراءاته ظرفية وأن يحافظ على دستور 2014 والمؤسسات التي يؤسس لوجودها من بينها البرلمان.

وتحشد هذه المعارضة لتظاهرة كبرى اليوم الأحد في الشارع الرئيس بالعاصمة التونسية. وبقطع النظر عن نجاحها في تجميع أعداد كبيرة أم لا، فإن المشكلة لدى المعارضين لإجراءات قيس سعيد الأخيرة هي مصداقيتهم في الشارع التونسي.

وأيا كانت مشروعية الاعتراض على المدونة التفصيلية التي صدرت بالجريدة الرسمية ومكنت قيس سعيد من تجميع صلاحيات واسعة بيده، فإن المعارضين لا يقدرون على إحراجه لسبب بسيط، وهو أن غالبية المواطنين التونسيين ينظرون إلى الطبقة السياسية التي حكمت في العشرية الأخيرة، ولمعارضيها، على أنهم بددوا فرصتهم في التغيير، وأن الناس لم يعد بمقدورهم أن يهبوهم فرصة جديدة ليكرروا الصورة القديمة، صورة الصراع والصراخ اليومي في البرلمان والفضائيات.

الحقيقة أن هذه الطبقة السياسية لم تترك للناس فرصة ليدافعوا عنها من خلال استشراء حالة الفوضى التي عاشتها البلاد، وتفشي الفساد والمحسوبية والشللية، والتعامل مع الدولة بمنطق الغنيمة، وإغراقها بالانتدابات دون مراعاة ظروفها.

الناس يريدون تغييرا جذريا، ويرون في قيس سعيد الأمل في تنفيذ ما يريدون، والخلافات حول تأويل الفصول لا تعنيهم، كما أن الديمقراطية ذاتها لا يرونها هدفا طالما أنها مثلت غطاء لسيطرة اللوبيات، وأظهرت محدودية برامج الأحزاب، وانتهازية الكثير من القيادات الحزبية والشخصيات السياسية المستقلة.

ما الذي يجعل الناس يدافعون عن مثل هذه الديمقراطية ويدعمون رموز الفشل؟ بالتأكيد لا شيء، حتى لو أن الكثيرين ممن يكفرون بهذه الديمقراطية كانوا يؤمنون بأنها ضرورة ولا بد من الاعتماد عليها لبناء دولة حديثة. فالقيم إن لم تنجح في خدمة الناس تصبح ترفا لا قيمة له.

ما يعيق احتجاجات المعارضة بالأساس هو صورة العشرية الماضية في عيون الناس، وهي الصورة نفسها التي تكسب قيس سعيد تعاطفا كبيرا في الشارع، وتقف وراء استطلاعات الرأي التي تعطيه نسبا عالية من الدعم في غياب شبه كلي لمنافسيه.

وفيما يحصل قيس سعيد على هذه النسبة من التعاطف تتضاءل شعبية خصومه بدءا من راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، ورئيس البرلمان المجمد. ويعيش الغنوشي وضعا صعبا داخل النهضة بعد استقالة أكثر من مئة قيادي من مختلف الرتب ساعات قبل مسيرة السادس والعشرين من سبتمبر التي أراد من خلالها استعراض قوة النهضة وقوته شخصيا.

وقال 113 عضوا بارزين في الحزب إنهم “يحملون المسؤولية إلى الخيارات السياسية الخاطئة لقيادة الحركة مما أدى إلى عزلتها وعدم نجاحها في الانخراط في أي جبهة مشتركة لمواجهة قرارات سعيد”.

والأمر نفسه بالنسبة إلى بقية الأحزاب التي شهدت استقالات وانسحابات بعضها علني والآخر دون ضجة، وخاصة التيار الديمقراطي الذي يحاول الرجوع إلى الوراء قليلا للتفريق بين دعمه للفصل ثمانين وبين تأويلات قيس سعيد الأخيرة التي مكنته من السلطتين التشريعية والتنفيذية. وقاد هذا الاضطراب إلى استقالات واهتزاز صورة الحزب صاحب المرتبة الثالثة في وزن الكتل البرلمانية.

كذلك يكاد يختفي حزب قلب تونس من المواجهة بعد اعتقال رئيسه نبيل القروي في الجزائر صحبة شقيقه، وهو نائب في البرلمان عن الحزب. وغياب القائد والممول الرئيسي وصاحب القناة التلفزيونية التي تروج للحزب، دفع نوابا من قلب تونس إلى الاستقالة منه ووضع أنفسهم على ذمة قيس سعيد إذا أراد حل البرلمان وفق أي تخريجة قانونية.

الناس يرون في قيس سعيد الأمل في تنفيذ ما يريدون
الناس يرون في قيس سعيد الأمل في تنفيذ ما يريدون

واضح أن مظاهرة الأحد هي محاولة للتغطية على الأزمات التي تعيشها الأحزاب وتراجع شعبيتها قياسا بالرئيس سعيد، كما أنها ستوفر فرصة لبعض من اختفوا عن الأنظار بعد خسارة انتخابات 2014 و2019 مثل الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، والمعارض التاريخي أحمد نجيب الشابي.

لكن هذا التحالف الظرفي لإنجاح مسيرة يخفي خلافات جدية لا يمكن القفز عليها بين مختلف هذه المكونات، فالتيار الديمقراطي طالما لمح قياديوه إلى أنهم طلبوا من قيس سعيد حل الأحزاب المتهمة بالفساد وسجن قياداتها، وهم يلومونه أنه لم ينفذ مطلبهم، وذهب بتأويل الفصل ثمانين اتجاها آخر. لو أن الرئيس سعيد نفذ مطلب التخلص من خصوم التيار لكانوا يصفقون له إلى الآن بدل وصف ما يقوم به بالفشل كما جاء على لسان الأمين العام السابق محمد عبو، وعضو البرلمان سامية عبو.

كما أن مختلف المجموعات التي تبنت المظاهرة وتنتقد قيس سعيد لا تقبل أي تحالف مع حركة النهضة، وأغلب البيانات التي صدرت باسمها كانت تبدأ بديباجة تقول فيها إن النهضة هي المسؤول عما حصل وهي من قادت الرئيس سعيد لإعلان إجراءاته.

وبالنتيجة، فإن جبهة المعارضة التي تقف ضد قيس سعيد جبهة ظرفية ربما تستفيد بشكل مباشر من اهتمام دبلوماسي وإعلامي دولي بتطورات تونس، وبتقدم الوقت وتحول التغييرات التي جرت منذ الخامس والعشرين من يوليو إلى أمر واقع سيتراجع الزخم الخارجي وبالنتيجة زخم المعارضة الداخلية.

ولا شك أن تمسك قيس سعيد بخياراته سيقسم هذه المعارضة إلى معارضات، بعضها براغماتي سيمد يده للسلطة الجديدة بحثا عن موقع، وآخر سيختار التراجع عن الأضواء، ويكتفي بتسجيل مواقف بين الفينة والأخرى، والثالث مثل النهضة وحزب العمال سيعيد تجربة المعارضة الكلاسيكية التي تنظر إلى المشهد بنظارات سوداء.