العلاقات بين الدول هي انعكاس للعلاقات بين الافراد، وحتى العلاقات بين الدول يديرها ويتحكم فيها افراد، ولكن في صورة مكبرة ومعقدة، والصورة الكبيرة تتشكل فيها عناصر عديدة وخطوط حساسة وبقع سوداء هي بمثابة الثغرات في تلك العلاقات. ليست هناك علاقة بين فرد وآخر وبين دولة واخرى لا تتضمن بقع سوداء (ثغرات)، وهذه البقع السوداء قد تكون شكوكًا او سوء نية او الاثنين معًا، ومن أبرز البقع السوداء هي تضارب المصالح.. ولانه من شبه المستحيل ان تتلاقى المصالح وتتوافق بشكل كامل فإنها تكون حاضرة في جميع العلاقات وبدرجات متفاوتة من الحدة والتباعد. وطبعًا هناك علاقات، وخاصةً بين الافراد وبالاخص في الطبقات الاجتماعية العاملة، تكون صفحة بيضاء خالصة وصافية، لا تشوبها شائبة ولا تعكر صفوها المصالح، لان هذه الطبقة لا تملك ما يمكن الاختلاف حوله، وهذا هو من اجمل مميزات «غياب المصالح». أما العلاقات بين الدول فان البقع السوداء فيها يفرضها أساسًا التباين في المصالح وبعضًا من المؤثرات بفعل الاختلاف الثقافي، والمصالح تتدرج من اقتصادي وتجاري من جهة، وسياسي واستراتيجي من جهة اخرى، فلا الجانب السياسي ولا الجانب الاقتصادي يمكن ان يتوافق وينسجم بالكامل بين دولة واخرى، وهذا من باب البديهيات وليس من باب التصورات والفرضيات.

القادة السياسيون في العالم، دون غيرهم، لهم لغة خاصة وثقافة خاصة وأسلوب تعبيري خاص، وهم بهذا التميز، او بهذه الخصوصية، او بهذه الملكة الاستثنائية، يمكنهم ان يقولوا ما لا يقصدون، او ان يصرحوا بشيء والمراد المكنون هو الشيء النقيض. انها لغة شائكة وفيها الكثير من الغموض المقصود، وأحد أوجه الغموض عندما يكون الخطاب او التصريح مباشرًا وغير مباشر في آن واحد، وهنا يبرز دور اللبيب الذي عليه ان يميز بين المباشر وأين وجهته، وبين غير المباشر وأين وجهته، قد يخاطب التصريح الطرف المباشر في العلاقة بينما المقصود هو طرف ثالث خارج العلاقة ينافس الطرف الاول في منطقة النفوذ او على المصالح الاخرى.

وهذا نمط من «أدبٍ» تتحفظ «الثقافة الانسانية» أن تقبلها في «عالم الادب»، وبالرغم من وجود اصدارات لخطب وأفكار سياسية، والابرز منها خطب وتصريحات وآراء السياسي الاستعماري المحنك الكبير وينستون تشرشل الذي غضب ومن ثم بكى عندما تطرق الى سمعه وأدرك بعلم اليقين ان بريطانيا «العظمى» آيلة الى الأفول لانها قررت الانسحاب من الهند «الاعظم»، والتاريخ يعلمنا ان بريطانيا الاستعمارية اكتسبت اسم العظمة من عظمة الهند صاحبة الحضارة العريقة والثقافة المتنوعة والارض الغنية - (مذكرات تشرشل في 4 مجلدات في معظمها عن الحرب العالمية الثانية)… وهذه الاصدارات تطغى عليها سمة السياسة مما يبعدها عن شفافية الادب. عندما يقول السياسي شيئًا علينا ان نتحسس ما هو النقيض الذي يتخفى وراء بريق كلامه، وهكذا تكون القراءة المجدية لكلمات تخرج من شفاه تتبسم لسياسي بارع محنك.. ومن الاجدر والحكمة أن لا تشتري كلام السياسي الا والشك معه.

يزداد الشك مع ازدياد الفارق في القوة بين طرفي العلاقة، فالطرف الاقل قوة والاقل سطوة والاقل نفوذًا والاقل حيلة هو الطرف الذي عليه أن يحمل أعباء الشك في المقام الاول ويتحسس مصالحه الذاتية وأمنه الخاص بين دفتي الكلمات التي تخاطبه، اذ قد لا يكون هو المقصود من الخطاب.

عندما يوجه طرف قوي متنفذ وله تاريخ حافل في الحروب والصراعات والمؤامرات، خطابًا الى طرف اضعف تجمعهما علاقة سياسية استراتيجية! وتكون رسالة الخطاب، على سبيل المثال وهو المثال الاهم في طبيعة العلاقة، أن «أمنكم استراتيجي و حيوي لامننا»، لا يؤخذ من الخطاب معناه اللغوي البسيط الذي يساوي بين «أمنكم» و«أمننا»، لان الترجمة السياسية لهذا الخطاب يختلف جوهريًا عن المعنى اللغوي، وهكذا طبيعة الخطابات السياسية، فهي بسيطة و جميلة ورائعة برسم خطوطها اللغوية التي تناقض مقاصدها السياسية … وصيغة «أمنكم حيوي لامننا» لا تعني بالضرورة ان «امنكم هو بالفعل أمننا» ولا تعني بالضرورة ان «امننا = امنكم». هذا التداخل بين أمنكم وأمننا، بالمعنى السياسي أساسًا، يثير في الاجواء أغبرة تعيق الرؤية… هل أمننا من أمنكم؟ او أمنكم من أمننا؟… وجهان لعملة واحدة، وكل وجه له خاصيته الوطنية وخصوصيته الامنية ورؤيته المستقبلية، ومن المستحيل أن تتساوى هذه العناصر الثلاثة في العلاقات بين الدول… ومن مميزات العملة، بالمطلق، ان يستحيل على الوجهين رؤية بعضهما بعضًا، ودائماً في اتجاههين متعاكسين. هذه العملة البسيطة في شكلها ومادتها تعلمنا دروسًا في العلاقات وتسلط على دربنا اشعة من نور الحكمة، حكمة التريث والتمعن والتبصر بغية التاكد من طبيعة العلاقات وأهدافها المكنونة الخفية. ومن الدروس أن التقاء اليدين في وحدة المصافحة (عملة واحدة) لا ينفي وجود خنجر في اليد الاخرى مخفي وراء الظهر، وهذا هو الدرس الاول من تعاكس الصورتين على وجهي عملة واحدة.

وهذا ينقلنا من المعنى اللغوي البسيط الى المعنى السياسي المعقد، واستنباط المعاني السياسية بدقة هو مهمة الدبلوماسي الخبير الذي تمرس في السياسة الى مستويات الرؤية المتبصرة وراء الكلمات مثل الاشعة السينية التي تكشف باطن الاجسام.

إن معادلة أمنكم وأمننا تذكرنا بالتصريح الذي تفوه به الرئيس الامريكي كارتر وهو يطمئن شاه ايران بأن نظامه مستقر وفي حالة امنية تطمئن لها واشنطن، وكان هذا التصريح قبيل الثورة الخمينية باشهر تقل عن السنة… ذهب الشاه وحل مكانه الخميني… هذه النقلة من الشاه الى الخميني، مثل نقلة الشطرنج، مازالت موضوع جدال بين كونها نتيجة انتفاضة شعبية خالصة، او نتيجة مؤامرة حاكتها دول كبرى بسبب مستجدات على الساحة الاقليمية اقتضت تغيير استراتيجية علاقتها مع الشاه، او أن الانتفاضة امتزجت معها المؤامرة لأن ميزان القوى في الساحة الوطنية الايرانية لم تكن في صالح الشاه.

خلاصة الرأي أن الأمن الوطني لا يكمن أبدًا في معادلات العلاقات الدولية ولكن في معادلات العلاقة الوطنية بين القيادة و القاعدة في الدولة… وصدق المثل الشعبي العريق الحكيم ذو المعنى الواضح والشفاف: «لا يحك جلدك سوى ظفرك».