في الكواليس السياسية والاستراتيجية اللبنانية، يجري التفتيش عن جواب "شاف" عن سؤال خطير يجري طرحه، بقوة، في هذه الأيّام: ما هي الخطوة التالية التي يمكن ان يُقدم عليها "حزب الله"، ميدانياً، بعد هجوم أمينه العام حسن نصرالله على حزب "القوات اللبنانية" ورئيسه سمير جعجع؟

وفي اعتقاد جميع المعنيين بالعثور على جواب عن هذا السؤال أنّه، بالإستناد الى منهجه العملي، فإنّ "حزب الله" يكون قد وضع خطة متكاملة يبدأ بتنفيذها، عندما يضع أمينه العام، في الإعلام، "أسبابها الموجبة".

ويعاني الباحثون في ملفات "حزب الله" من عدم قدرتهم على الإستحصال على "معلومات خاصة"، نظراً لانعدام الشفافية في سلوك هذا "الحزب الحديدي"، ولهذا فهم مضطرون لتقديم سيناريوهات تقريبية مبنية إمّا على إطلالات مسؤولي الحزب المدروسة، وإمّا على "معلومات" يخشون أن تكون "مدسوسة" وإمّا على مقارنة المناخات والأزمنة والأسبقيات.

ولكنّ هؤلاء الباحثين، بفعل التجربة، وجدوا ثغرة معلوماتية في نظام "حزب الله" المغلق، تتمثّل في "الشخصيات الترويجية"، أي من "الجيوش الدعائية" التي يملكها "حزب الله"، وهي تتألّف من أشخاص ثانويين يعتمدهم في سياسته الدعائية ومن "جيشه الإلكتروني" الناشط على مواقع التواصل الاجتماعي.

وقد دلّت التجارب أنّ الترويج لما يمكن أن يمتنع "حزب الله" عن تبنيه رسمياً يتم من خلال هذه "القنوات".

سيناريو... الإغتيال

إلى ماذا توصّل هؤلاء، في قراءاتهم الأوّلية التي سوف تخضع لمزيد من التمحيص؟

إنّ المنافسين السياسيين لحزب "القوات اللبنانية" ورئيسه يحسبونها انتخابياً، انطلاقاً من مواقف الشارع وعواطفه المعادية ل"حزب الله". هم لم يروا في هجوم نصرالله على جعجع إلّا نتائج إيجابية لمصلحته في صناديق الاقتراع.

ولكنّ المحللين "الأمنيين" لم "يحسبوها على هذه الطريقة"، بل ربطوها بطبيعة "حزب الله" الذي، كما يقول أوّل رئيس ايراني بعد الثورة الخمينية ابو الحسن بني صدر، يسعى الى تحقيق نتائج سريعة باللجوء الى العنف. "بني صدر" يطلق، في كتابه "مؤامرة الملالي"، على هذا السلوك إسم: "نهج حزب الله".

يلفت فريق من المحلّلين الى أنّ "حزب الله" وأمينه العام أوجدا مناخاً شبيهاً بالمناخ الذي كان سائداً، عشية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

يومها، كان هناك القرار ١٥٥٩ بشقيه السوري (الانسحاب من لبنان) و"الحزب اللهي"(نزع السلاح)، وكان هناك الانتخابات النيابية في أيار(مايو) ٢٠٠٥.

في تلك المرحلة، تعرّض الحريري لأعنف هجوم. جرى نعته بأبشع النعوت. جرى ربطه بمشروع اميركي-فرنسي يقف وراء القرار ١٥٥٩. وتمّ اعتباره "رأس الأفعى".

منافسو الحريري السياسيون لم يجدوا، يومها، في هذا الهجوم الذي تولّاه النظام الامني اللبناني-السوري ("حزب الله" يشكّل عموده الفقري) سوى ترجيح كفّة الحريري الانتخابية وكفّة من يريد أن يتحالف معهم في البيئات المعارضة، ومن بينها البيئة المسيحية التي كانت تتمثل في حينه بـ "لقاء قرنة شهوان".

ولكنّ هذا الخوف من الحجم الاحتمالي للحريري في الانتخابات النيابية لم يكن يقلق "صنّاع القرار" في لبنان، لقناعة بدت راسخة لديهم بأنّ الحريري لن يكون ركناً من أركان الانتخابات.

وبالفعل، هذا ما حصل عندما دوّت أكبر عبوة اغتيالية عرفها لبنان في موكب الحريري في ١٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٥.

بالعودة الى هجوم "حزب الله" وأمينه العام على حزب "القوات اللبنانية" ورئيسه، فإنّ لدى هذا الفريق من المحلّلين ما يكفي من حجج تاريخية ومعطيات حالية، للاعتقاد بأنّ "حزب الله" لن يتوقّف عند النقطة "الشفوية" التي وصل إليها، لأنّه يعرف تمام المعرفة أنّه، بذلك، يكون قد قدّم لمن رفعه الى مستوى العداوة، خدمة ذهبية، وتسبّب لحلفائه الذين يخاصمون "عدوّه" بهزيمة انتخابية ماحقة.

ولهذا، فإنّ هذا الفريق يذهب الى مستوى التحذير من عملية اغتيال يمكن أن تستهدف جعجع، مباشرة وليس أحد أركانه، على اعتبار أنّ جعجع لا يتأثر بالرسائل الترهيبية، بل يعرف أن يترجمها لمصلحته، لأنّه، خلافاً ل"التيار الوطني الحر"، وفق التعبيرات الحرفية للنائب عنه آلان عون، في حوار تلفزيوني مع قناة "الجديد" قبل ثلاث سنوات، لا يعتبر أنّ "حزب الله" يخيف، مهما فعل.

يومها، قال آلان عون:" إنّ حزب الله يخيف مهما فعل، فهو مثل الأسد، إذا نظرت إليه، حتى من دون أن يحرّك ساكناً يخيفك، فكيف إذا غضب وأسمعك زئيره".

وبالنسبة للفريق الذي ذهب في اتجاه التحذير من إمكان استهداف جعجع بعملية اغتيال، فإنّ حديث نصرالله عن امتلاك حزبه هيكلية عسكرية مؤلّفة من "مائة ألف مقاتل"، إنّما يشمل مرحلة ما بعد تنفيذ الإغتيال أكثر من المرحلة الراهنة، أي أنّه يعمل على أن يردع مسبقاً أيّ حركة اعتراضية يمكن أن ينتجها هذا الإغتيال.

في الواقع، لقد قدّم نصرالله كل الأسباب الموجبة لاعتبار سمير جعجع "خطراً وطنياً"، فهو يتعاون مع "أعداء لبنان" بدءاً بالولايات المتحدة الأميركية، مرورً بإسرائيل، وصولاً الى "دول خليجية"، وهو حليف المنظمات الإرهابية مثل "داعش" و"جبهة النصرة"، وهو "قاتل وسفّاح ومجرم"، وهو يعمل من أجل نشوب حرب أهلية، وهو خطر على اللبنانيين عموماً وعلى المسيحيين خصوصاً.

وبهذا المعنى، فإنّ اغتيال جعجع، بنظر "حزب الله" ليس جريمة بل الإبقاء عليه حيّاً يُرزق.

سيناريو "حرب الإلغاء"

ولكنّ فريقاً ثانياً من المحلّلين يُشكّك بصوابية هذا السيناريو، لأنّ محاولة الإغتيال المعنوي التي أنجزها نصرالله في كلامه يستحيل أن تستتبع بجريمة اغتيال جسدي، على اعتبار أنّه سوف يكون المتّهم الأوّل والوحيد، ولهذا فهو يكتفي برفع السقف تاركاً مهمة التعامل مع جعجع للمسيحيين الآخرين، خصوصاً وأنّ لديهم حضوراً ميدانياً وسياسياً وقوة سلطوية وتأثيراً كبيراً في بعض الأجهزة الأمنية.

بنظر هؤلاء، إنّ نصرالله وضع "تصفية جعجع" في ملعب حلفائه المسيحيين، إذ إنّه سبق له أن أعطاهم كل أدوات التحكّم بالشارع، بدءاً برئاسة الجمهورية والمؤسسات العسكرية والأمنية، وصولاً الى القوة الميدانية والإعلامية والمالية.

وفي فهم نصرالله، إنّ على هؤلاء الحلفاء أن ينقذوا أنفسهم من جعجع، بدل منافسته في الميدان نفسه، من خلال اعتماد سياسات "ملتبسة" و"رمادية"، بحيث يبرزون، في سياق منافسة جعجع على الشعبية، كأنّهم "مضطرون" للتعامل مع "حزب الله"، في لعبة "انتهازية"، وليسوا مقتنعين بذلك، كما هي عليه حال كثيرين في "التيّار الوطني الحر".

وهذا يعني، وفق هذا الفريق من المحللين، أنّ "حزب الله" يخيّر حلفاءه المسيحيين، وهم من يشكّل جعجع خطراً عليهم، بين التعامل الحاسم مع رئيس حزب "القوات اللبنانية" أو خسارة المكتسبات التي يتمتّعون بها، في حين أنّ "حزب الله" لا يعنيه صعود "القوات اللبنانية"، فهذا الحزب لن يتمكّن من اختراق بيئته السياسية والإنتخابية، وهو لا يشكّل خطراً، حتى تكتيكياً، عليه لأن لديه هيكلية عسكرية قوامها "مائة ألف مقاتل".

وإذا ما جرى استخراج العبر من نتائج هذين المسارين التحليلَيْن، فإنّ نصرالله وجّه الى جعجع تهمة أخطر من تهمة تفجير كنيسة "سيّدة النجاة"، وهي تهمة تفجير الوجود المسيحي في لبنان، وبالتالي أسقط على جعجع قرار الإعدام، ولكن، في المقابل، على الآخرين الذين يخشون من حضور جعجع الميداني والسياسي والنيابي، أن يذهبوا الى تنفيذ معطيات هذا القرار.

وهذه الخلاصة، تعني أنّ نصرالله يستدعي حلفاءه المسيحيين الى شنّ "حرب إلغاء" ضد حزب "القوات اللبنانية" ورئيسه، وهو سوف يكون في موقع الداعم لهم، بكل ما يحتاجونه، في حين أنّ لا أحد في الولايات المتحدة الأميركية "الهاربة من أفغانستان" أو في إسرائيل "التي يرهبها حزب الله" أو في الخليج "الغارق في وحول اليمن" سوف يهب لنجدته، كما أفهم نصرالله في كلمته الأخيرة "من يعنيهم الأمر".

إنّ وضعية سمير جعجع الحالية شبيهة بوضعية الرئيس رفيق الحريري، قبل اغتياله، ولكنّ هذا التشابه لا يلغي التمايزات، فالحريري كان يملك القدرة على توسيع تحالفاته على مستوى الوطن ممّا يشكّل خطراً على مصالح "محور الممانعة"، في حين أنّ جعجع في وضعية ضمور تحالفي، فهو في قطيعة كاملة هنا وشبه قطيعة هناك مع حلفائه السابقين في 14 آذار وبالتالي هو يشكّل خطراً مسيحياً وليس خطراً وطنياً يمكن أن يتضرّر منه "محور الممانعة"، وبالتالي فإنّ جعجع الحالي هو بخطر "نسخته" التي جرى اعتقالها في نيسان (أبريل) 1994.

القدر والمفر

إلّا أنّ هذه السيناريوهات الخطرة التي تستهدف جعجع ليست قدراً لا مفرّ منه، لأنّ منطلقات "حزب الله" خاطئة، فلبنان، حالياً، ليس في وضعية العامين 1994 و2005، وشخصيات لبنان المستهدفة لا تتعاطى مع المخاطر المحدقة بها بتلك "الرومانسية" التي تعاطى بها جعجع مع نفسه في العام 1994 أو الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، وأكثرية الشعب اللبناني التي تذوق الأمرّين، بسبب الكارثة الموصوفة، لن تسمح ل"حزب الله"، ولو كان لديه مليون مقاتل وليس "مائة ألف"، أن يواصل نهجه التسلّطي على البلاد، وحلفاء "حزب الله" المسيحيون يدركون أن ليس جعجع من يشكّل خطراً عليهم، بل الشعب الذي يمكن أن يعتمد جعجع أو آخرين معادين لهم، كقوى تمثيلية، سواء "عقابياً" أو "خلاصياً".

ولأنّ رغبات "حزب الله" المعادية لجعجع ليست قدراً لا مفرّ منه، فإنّ كلام نصرالله، وحتى لو لم تكن هناك أسبقيات، يمكن أن يبقى كلاماً في الهواء "يتسلّى" به صبية الأزقة، مثله مثل بعض المقالات التي "ينقل عنها" أدبياته التي تنحرف، في كثير من الأحيان، الى مستويات لا تتلاءم مع قيادة تصنّف نفسها في خانة "الألوهة" أو "السيادة" أو "الريادة".