لا مؤشرات تدل على أن الأزمة السياسية في لبنان، والتي تفاقمت بعد حادثة الطيونة – عين الرمانة، على طريق الحل، إذ إن الانسداد مستمر والصراع على أشدّه لحسم الأمور بين القوى السياسية والطائفية والعاجزة حتى الآن عن بلورة تسوية تعيد انطلاقة العمل الحكومي وتتصدى للاستحقاقات الداهمة في ظل الانهيار الذي يعصف بالبلد. الواقع يشير اليوم إلى أن لبنان دخل في مرحلة جديدة بعد حادثة الطيونة وإصرار "حزب الله" على الإطاحة بالمحقق العدلي في قضية انفجار المرفأ، إنما الأكثر خطورة هو ما حدده الأمين العام لـ"حزب الله"، السيد حسن نصر الله، في خطابه الأخير، من معالم المرحلة الجديدة وسماتها، أي محاولة تكريس تفوقه واستطراداً هيمنة الشيعيّة السياسية على القرار.

الانسداد السياسي في البلد والأزمات المتلاحقة والعجز عن إيجاد حل، ترتبط بمشاريع لها امتدادات إقليمية، حيث يتقدم "حزب الله" كل القوى بارتباطه بمرجعيته الإيرانية، وتأديته أدواراً إقليمية في المنطقة كلها، عبر تدخله في سوريا أولاً، ثم اتهامه بأدوار في العراق واليمن وغيرهما، فيما يعتبر معركته أنها ضد الأميركيين وحلفائهم في لبنان والمنطقة، لذا كان لافتاً إعلانه الانتصار أخيراً بعدما تمكن من إدخال المحروقات الإيرانية إلى لبنان، وإعلان تفوّقه في الداخل اللبناني، فيما التركيب اللبناني الطائفي وحقوق الطوائف وصيغة البلد المعقدة تمنع قدرة أي طرف على تغييرها والسيطرة على الدولة، حتى لو كان يملك مئات الألوف من المقاتلين.

خطاب "حزب الله" بعد حادثة الطيونة أراد من خلالها إظهار التفوق والقدرة على حسم الوضع، لكن الأمر ليس بهذه السهولة في تركيبة طائفية معقدة وحقوق نقض للطوائف، إلا إذا انجرف نحو حرب أهلية تؤدي إلى الفوضى والدمار، كما حدث في عام 1975، وحتى خلال الوصاية السورية على لبنان، بقيت الطوائف قادرة على تعويم نفسها. فيما يبقى هدف "حزب الله" ومن خلال اختراقه لبيئات طائفية مختلفة وتحالفه مع رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره السياسي، وأيضاً من خلال إعلان نصر الله أنه يمتلك 100 ألف مقاتل مجهزين، الإمساك بالقرار ومعادلته، وأنه هو المقرر وعلى الجميع أخذ قوته بالاعتبار والتحاقه بمشروعه، إضافة إلى رسائله التحذيرية لقوى خارجية خصوصاً الأميركيين من استمرار دعم حلفائهم في لبنان، وإن كان يعرف أنه لا يستطيع تغيير الصيغة في البلد إلا بالانقلاب وخوض حرب دموية قد تكون باهظة الثمن ولا تؤدي إلى نتيجة.

الصيغة اللبنانية المعقدة، ورغم الانسداد السياسي للنظام، هي عصية على التفكيك، علماً أن "حزب الله" صار جزءاً منها وإن كان يسعى إلى تكريس تفوّقه بفائض القوة الإقليمي. وللدلالة على تعقيدها وتجذر النظام السياسي الطائفي، لم يستطع مئات الآلاف من اللبنانيين الذي نزلوا إلى الشوارع في انتفاضة مجيدة في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 من إحداث التغيير، فانتهت الانتفاضة بعد القمع الميليشيوي والتوظيف السياسي والطائفي واستمرت محاصصة الطبقة السياسية في الحكم غير عابئة بالانهيار وهي المسؤولة عنه بالدرجة الأولى. وللمفارقة أن "حزب الله" بقوته أدى دوراً أساسياً في إجهاض الانتفاضة كما قوى طائفية أخرى على المقلبين الإسلامي والمسيحي سعت إلى توظيف الانتفاضة واستثمارها لتحسين مراكزها في الصيغة وللإمساك بساحتها لتغيير موازين القوى في النظام.

المعادلة اليوم هي أن "حزب الله" يملك فائض القوة وهو مقرر في أمور كثيرة ولديه الأكثرية بالتحالف مع العهد أو رئاسة الجمهورية، وهو يستطيع أن يدفع الأمور إلى مستوى من التصعيد لتكريس وقائع على الأرض وبالأمر الواقع، فإذا استدعي رئيس حزب القوات اللبنانية للاستماع إلى إفادته في المحكمة العسكرية تكون محاولة لكسر اندفاعته، من دون تكرار تجربة 1994 حين اتهم بتفجير كنيسة سيدة النجاة وجرى سوقه إلى السجن لمدة 11 عاماً، إذ إن الواقع يختلف اليوم عن تلك المرحلة بعدما تمكنت "القوات" من فرض وجودها في الساحة المسيحية على حساب "التيار الوطني الحر" برئاسة جبران باسيل، والذي تراجعت شعبيته بعد الانتكاسات الكبيرة لعهد رئيس الجمهورية ميشال عون.

"حزب الله" يريد الحفاظ على مكتسباته السياسية وتلك التي حققها خلال السنوات الماضية، وقدرته على التحرك أمنياً، والتدخل في أي مجال من دون اعتراض، ويندرج تصعيده تحت هذه الخانات، وهو الذي كان تمكن برعاية إيرانية من الدفع بتشكيل حكومة نجيب ميقاتي وفي إمكانه إسقاطها، وفرض وقائع على الأرض والتعطيل والتهديد بالقوة، لما يملكه من فائض، لكنه لا يستطيع أن يغيّر الصيغة اللبنانية المعقدة، وأيضاً قد يضطر الى البحث عن صيغ معينة لضبط الوضع، طالما أن جمهوره يعاني أيضاً من تبعات الانهيار، وهذا ما حدث حين أمّن جزءاً من المحروقات للسوق.

لن يتوقف "حزب الله" عن التصعيد، خصوصاً بعد حادثة الطيونة، إلى أن يحصل على ما يكرّس تفوقه، وإن كانت التحقيقات مستمرة بصرف النظر عمن هو المسؤول عن إطلاق النار وسقوط الضحايا، وهو لن يتراجع أيضاً إلى أن تُحسم قضية المحقق العدلي في تفجير المرفأ. والتصعيد يؤدي إلى الإطاحة بالحكومة وقد ينسحب الأمر على الانتخابات النيابية وربما الرئاسية، ليسود الفراغ في انتظار تدخل دولي وإقليمي بعد الاتفاق على الملف النووي يؤدي إلى تسوية كبرى تطاول الصيغة اللبنانية. فإذا كان تصعيد الحزب يقتضي ذلك، وهو يعتبر أنه غير معني بعودة الدولة، قد يذهب البلد إلى الفوضى. أما إذا كان التصعيد للحصول على مكاسب راهنة أقله في الوقت الراهن، فقد نصل إلى تسوية توقف التوتر واحتمالات المواجهات الأمنية المتفرقة، ويمكن أن تطيح بالمحقق العدلي، لإعادة الأمور إلى ما قبل حادثة الطيونة، وبذلك يكون الحزب قد حقق ما يريده في المرحلة الحالية. كل ذلك من دون التطرق إلى استحقاقات أخرى خطيرة ترتبط بمصير لبنان ومنها ملف ترسيم الحدود والمواجهة مع إسرائيل. والخطر قائم واحتمالاته داهمة باستمرار رهن البلد إلى الخارج.