هناك مشهدان كارثيّان يسحقان كرامة الإنسان عبر تجويعه، الأول يعود إلى العراق في تسعينات القرن الماضي عندما وُضع العراقيون برمتهم في قفص مقفل وتحت طوق حصار أعمى لتجويعهم بذريعة معاقبة النظام. واليوم يتكرر نفس الطوق على السوريين إلى درجة يعجزون فيها عن توفير قوت يومهم.

الكارثة التي عانى منها العراقيون على مدار اثني عشر عاما يعاد تنفيذها على السوريين اليوم في مختبر تجارب التجويع السياسي. وهذا المقال غير معني بالذرائع السياسية التي سبق وأن جوّعت العراقيين وظهر تلفيقها لاحقا، ولا بالأسباب السياسية التي آلت إلى حال يعجز فيه السوريون عن توفير قوتهم اليومي. فلا منطق إنسانيّا لترك شعب يتضوّر جوعا تحت مسوغات سياسية مهما كانت. فعندما يصل الأمر إلى كرامة حصول الإنسان على قوته اليومي يجب أن نشطب أيّ سبب سياسي. ولا يمكن أن يكون مثالنا سيئة الذكر مادلين أولبرايت، عندما أظهرت صلافة وغطرسة لا إنسانية وهي ترى أن موت مليون طفل عراقي بسبب نقص الدواء والغذاء ثمن مقبول لإسقاط الدكتاتور صدام!

بالنسبة إلى السوريين توجد أكثر من أولبرايت تطالبهم بثمن من حياتهم وحياة أطفالهم. وإلى حدّ الآن دفع السوريون أقسى ما يمكن تصوره من حياتهم ولم يستطع العالم تغيير نظام بشار الأسد، فيما يبدو المستقبل بالنسبة إليهم معتّما إلى درجة الشعور المرير بظلم ووحشية هذا العالم الذي تخلى عنهم، مع وجود أكثر من 60 في المئة من السكان غير قادرين على ضمان الحصول على غذاء كاف و1.8 مليون آخرين معرضين لخطر الانزلاق إلى الجوع، وفق أرقام منظمات الأمم المتحدة.

الثمن يتضاعف اليوم مع الملايين من السوريين المشردين في مخيمات اللجوء وحياة الذل والكرامات المهدورة التي يعيشها اللاجئون السوريون في تركيا ولبنان والأردن ودول أخرى، وأولئك الذين يعيشون بين أنقاض بيوتهم، ومن يتضوّرون جوعا مع أطفالهم في مدن تحت سيطرة النظام. فالتضخّم جعل مرتباتهم الشهرية لا تسدّ أكثر من شراء أسطوانتي غاز شهريا!

كان العراقيون يقولون إبان طوق الحصار الأعمى إن مرتباتهم الشهرية لا تكفي أكثر من شراء طبقة بيض.

الكارثة مستمرة في سوريا، ومن دفع ثمنها الباهظ وحدهم من يشعرون بذلك، والكلام عن انتصار سياسي مجرد تعبير أجوف ومتغطرس يعبّر عن الفشل السياسي الدولي كما يعري موت الضمائر

من عاش الوجع العراقي والجوع الذي نخر العظم، يشعر بجوع السوريين اليوم، ويشطب على كل الأسباب السياسية التي تؤول إلى موت الضمائر الدولية منها والحاكمة في دمشق. فلا يوجد سبب إنساني واحد لموت طفل جوعا أو مرضا، لأنه سيؤدي في النتيجة إلى إسقاط حاكم مستبد.

ترسم التقارير الصحافية من داخل المدن السورية الوجوم على الوجوه وهي تقف في طابور أمام أفران الخبز وبسبب ارتفاع الأسعار الجنوني لأسعار المواد الغذائية، بمعدل 80 مرة، بينما لا يتعدى متوسط الراتب الشهري لموظفي القطاع العام 25 دولارا، وموظفي القطاع الخاص 50 دولارا، بعدما كان راتب الموظف الحكومي قبل سنوات الحرب نحو 600 دولار.

قبل أيام نقلت صحيفة الغارديان البريطانية قصة من الوجع السوري، عن خالد وزوجته دلال اللذين ناما في الطرقات يتضوران جوعا في لبنان ويتسوّلان في المساجد والكنائس وعاشا على حافة الهاوية إلى أن حصلا على اللجوء في بريطانيا.

وعندما تذكّر خالد أيام الجوع في السنين المرة، أول شيء عمله التطوع في منظمة خيرية لتوزيع الطعام على المشردين البريطانيين، لأنه في تلك الأيام التي عاشها مع زوجته وهو يتضور جوعا، شعر بمعنى أن يجوع الإنسان.

إذا كان القدر أنقذ خالد ودلال، يوجد الملايين من السوريين ينهكهم الأسى والجوع وفقدان الأمل.

الكارثة مستمرة في سوريا، ومن دفع ثمنها الباهظ وحدهم من يشعرون بذلك، والكلام عن انتصار سياسي مجرد تعبير أجوف ومتغطرس يعبّر عن الفشل السياسي الدولي كما يعري موت الضمائر.

لم يكن بمقدور الحرب أن تجلب الحرية بالأمس للعراقيين وليس بمقدورها أن تفعل ذلك في المستقبل للسوريين، كما يزعم السياسيون الحاكمون والمعارضون المتشدّقون بدفع ضريبة الكلام المجرد. الحرية تأتي من إيقاف هدر كرامة الإنسان وسدّ جوعه وتأميم حياة الأطفال.

كان هناك العديد من الإباء لما سمّي حينها بالانتصار على النظام السوري قبل سنوات. أما الهزيمة المستمرة، السياسية منها والإنسانية فلا إباء لها. الهزائم دائما يتيمة!