إن لفنون الجبال في عسير خصوصية تأثرت وأثرت في الشخصية ذات الطبيعة الجبلية، ولذا كان لزاماً تتبّع بعض هذه الفنون الأدائية، والتي تمتعت بها خصوصية المكان، فمن الدهشة أنها فنون تقترب من الظواهر المسرحية بما يمليه علينا قانون المسرح، لما في هذه الفنون من ظواهر طقسية والتي يعتمد عليها فن المسرح في كثير من الأحيان. ومن هذه الطقوس على سبيل المثال (فن الطَّرْق).

وفن الطّرق يصدر من شخص واحد، يرفع عقيرته بالغناء حيث يُسمع من مسافات بعيدة، وله بحور تشبه القصيد أحياناً، إلا أنه أقل تنوّعاً وتعقيداً؛ على سبيل المثال قول الشاعر سعيد ابن مريّع في لون الطَّرق عندما رحل أخوه من بلاد رفيدة إلى أبها مروراً بوادي بيش ووادي مسيلة حتى استقر في حي اليمانية بأبها؛ فصاغ نشيده بمفردات المكان الممزوج بعطافة الفراق فهو شديد التعلق به، حتى أنه أوجس خيفة على بصره من شدة الحزن فأنشد يقول:

براق يبرق في اليماني ورا أبها

سيله تعدى مسيلة وانتحى بيش

يا رب تعقل لي بشوفي وآرى أبها

إن كان ما تعقل بشوفي فآرى بإيش؟

فغالباً ما يتسم فن الطَرْق بالشكوى والأنين، ولذا حين يرن صوت الطارق بين الجبال يتوقف كل في مكانه من أهل القرى المجاورة احتراماً واستماعاً لرنة الصوت بين الجبال وتمتمعاً بكلماته التي تكون في الغالب ارتجالية.

وإذا ما تأملنا قالب فن الطَّرق وتصنيفه بين الفنون، فسنجد أنه ينتمي إلى قالب أغاني الرعاة الذي تميزت به أوروبا في العصور الوسطى والتي نبت منها فن الأوبرا الإيطالية فيما بعد.

حيث نجد لأغاني الرعاة رصداً فريداً في تاريخ الفن، ولعل أشهرها الشاعر اليوناني الإسكندري تيوكريت (310ق.م– 250ق.م) وأشعار فرجيل، إلا أنه يبدو أن بذور هذه الأشعار كانت في الجزيرة العربية، لأن العرب دأبوا على أغاني وأشعار العمل والرعي منذ العصور الغابرة، ولكن يختلف الأمر في هذا الشأن بأن أغاني وأشعار الرعاة الطَّرق وغيرها، لم يكن لها بناء درامي ولذا نعتبرها ظاهرة مسرحية، ذلك لأن أشعار الرعاة في العصور الوسطى في أوروبا ملاحم مثل ملحمة فرجيل وملحمة تيوكريت وغيرها لها بناء درامي واضح ولذا خلدت كملاحم إلى يومنا هذا؛ ومع ذلك فـ»إن الحياة الرعوية تشغل الإطار العام، فتكتسب، من ثيمتها، أهمية قصوى، إذ تغدو الثيمة الأساس التي توجه النص، وهذه الثيمة لا تخرج، في الغالب الأعم عن الخشوع أمام الطبيعة والحنين إلى العهد الذهبي أو «الأركاديا»، ومدح الخلوة والعزلة والبداوة».

والطَّرق هو إطلاق الشاعر أو المؤدي عقيرته بين الجبال كما أسلفنا، فللطبيعة الجبلية العالية دور في رنين الصوت وتردده وتقويته. فكان يطّرِّق المؤدي فيمدحه الناس وينصتون في كل مكان، في مزارعهم وفي بيوتهم، وفي أعمالهم، كلٌ يتوقف ويحبس أنفاسه حتى ينتهي الطّرق، وعادةً ما تكون ثيمة الشجن والحزن هي ما تكتنف هذا اللون من الفن. وأذكر أنه كان هناك رجل من مَوَالي العمدة في بلاد رفيدة يُكنى (بن خبشة)، كان حينما يُنشد الطَّرق خلف الجبال، يعم نوع من السكون في كل مكان، ويمتدحونه بقولهم (صوته تتهاوى له الطير) مبالغة في وصف حسن صوته الذي يصل لأسماع الناس من بين الجبال ومن خلفها ومتعة سمعية تكتنفها العاطفة.

وعادة ما يكون لون الطَّرق ارتجالياً، ولذا ينصت الجميع لسماعه، لأنهم سيسمعون شيئاً جديداً تتوارثه الأجيال فيما بعد.

ولفنون الشافة لون آخر نعتبره من الظواهر الدرامية أيضاً.

فإذا ما دلفنا إلى فن الشافة من فنون التشييد والبناء الجبلية، فهو من أهم الظواهر الاحتفالة الطقسية، ففي عملية البناء، يكون هناك اهتمام كبير «بالسارية»، والسارية هي أهم أعمدة السقف وزينتها، وتكون من أجود الأشجار وأشدها صلابة واستقامة، وهي التي تستند عليها صفوف الأخشاب التي تحمل سقف المنزل، أو توضع كدعامة يستند عليها السقف. قد يسبق صاحب البيت الجماعة بالتجول في الغابات واختيار السارية، ثم يعود ليجمع القبيلة، فيجتمعون ذاهبين إلى موطنها مكونين أعداداً متساوية من السارية استعداداً لحملها على الأكتاف، بحيث إن كل جماعة تركع تحت جزء معين منها، مع الحرص أن تكون المجموعة الأمامية أقل ارتفاعاً من الوسط والوسط أقل من الجزء الأخير الذي فيه يكونون وقوفاً، ثم يعتلي السارية رجلان يحملان البيرق (راية)، ويبدؤون في صعود الجبال، وبها يغنون أغانيهم وينشدون أشعارهم ويضربون دفوفهم وحين يمرون على قرية من القرى يستقبلونهم بطلقات الرصاص تحية لهم، وينشدون لهم الأشعار ويقرعون لهم الدفوف، فإذا كان المكان المقصود قريباً واصلوا سيرهم، أما إذا كان المكان بعيداً فإنهم ينزلون ضيوفاً على أهل القرى التالية فيحتفون بهم كسابقيهم من القرى، ثم يواصلون سيرهم إلى المكان المقصود، ثم تقام الاحتفالات بما يسمى باحتفال الشافة.

ومن الفنون الأدائية شديدة الخصوصية بالمكان (أغاني المنحى) أيضاً.

وهي الأغاني التي تصدر من عامل البئر حين انتزاع الماء لسقي المزارع، حيث يقضي يومه بين دابتيه ذهاباً وإياباً في المنحى، وهو المستطيل الواقع على إحدى حواف البئر، وهذه الأغاني تأتي عفوية، وتحمل في طياتها الحكم والأمثال، فيفد الجمهور من نساء ورجال والجلوس على جانبي المنحى للاستماع والمشاهدة، فيمكثون طيلة اليوم على جانبي المنحى حتى غروب الشمس.

وقد استلهمت هذا الطقس في تأليف نصي المسرحي داعية السلام (زهير ابن أبي سلمى) والذي افتتح به سوق عكاظ عام 2008 فكل هذه الفنون الأدائية ظواهر مسرحية يجب أن ننتبه لها.