أمر طبيعي أن تتفاوت درجات النّجاح والفاعلية حيال الأنظمة واللّوائح والقوانين التي تسنّها وتشرّعها الدول، من أجل ضبط منظومة العمل فيها، بما يتوافق وأهدافها وإستراتيجياتها. وهذا التفاوت مرده -في الغالب- إلى المسافة ما بين التشريع والتطبيق، فهذه المسافة هي التي تحدد مدى فاعلية وقدرة ونجاح الأنظمة واللوائح والقوانين، فكلما كانت هذه المسافة قريبة، ومتماهية وفق المعطيات والتقديرات السليمة، كلما اكتسبت هذه التشريعات سلطانًا نافذًا، وبسطت هيبتها، وأكدت فاعليتها المثبتة على نحو عملي منظور وملموس، ومتى ما بعدت هذه المسافة، ظلت هذه التشريعات حبرًا على ورق، وسطورًا لا قيمة لها في ميزان العمل والتطبيق..

على أنّ هذه الصورة لا تكاد تتحقق بالشكل المثالي، بخاصة في ما يتّصل بالتشريعات والقوانين المتعلّقة بمكافحة الجريمة والفساد في المجتمعات، بالنظر إلى تنوّع الأساليب، واستغلال الثغرات، وضعف النفوس البشرية أمام المغريات، ونقص الإمكانات الضابطة، وغير ذلك من النواقص والمعيقات، بما يخلق فجوة كبيرة بين التشريعي والتنفيذي، وتكون المحصلة عدم قدرة على إنفاذ القانون، ولجم جماح الجريمة والفساد..

ولمّا كان الأمر بهذا العسر والصعوبة، فإنّ تحقيقه لم يتسن إلا لقلّة قليلة جدا من الدول، استطاعت أن تكبح من سطوة الفساد، وتضبط انفلات الجريمة، محققة توازنًا مجتمعيًا منضبطًا، ومستشعرًا لقيمة ومعنى القوانين، وحريصًا على تجنّب مزالق الفساد، ومرابض الجريمة.. وهذا أيضًا من النّدرة بحيث لا نراه إلا في عدد محصور في أصابع اليدين ولا يتعداهما في عالمنا اليوم، على تفاوت بين هذه البلدان وتباين في التقديرات..

أمّا أن تصبح تجربة بلد ما ملهمة لغيرها، ونموذج تتطلّع إليه المنظومة الدولية، فهنا يكون الاستثناء، والتأكيد على أن التجربة تعدّت في نجاحها، وجودة تطبيقها، ونفاذ سطوتها، المحيط المحلّي، لتصبح «أيقونة عالمية».. وهو عين ما تحقق لوطننا الغالي بمشروع القرار الأممي، القاضي باعتماد شبكة مبادرة الرياض العالمية لسلطات إنفاذ القانون المعنية بمكافحة الفساد والمسماة (GlobE Network) في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد..

إن هذا القرار يحمل في طيّاته رسائل عزيزة على الحصر، وبشارات تؤكد سمو المكانة التي بلغتها المملكة في ظل قيادة سلمان الحزم والعزم، وولي عهده، مهندس الرؤية الخلاقة، فنحن بهذا القرار أمام اعتراف دولي بدور المملكة الرائد والمؤثر في قيادة العمل الدولي لمكافحة الفساد العابر للحدود وإنفاذ القانون، وهو ما يعني بداهة أن المملكة استطاعت أن تسنّ تشريعات، وتعضدها بوسائل تطبيق نافذة وحازمة، استطاعت من خلالها أن تجفف معاطن الفساد، وتقطع الطريق على كل من تسوّل له نفسه انتياش منظومة العمل في أي مجال بسلوكيات لا تتوافق مع النهج المرسوم، والطريق الأبلج الوضيء..

إن صدور القرار الأممي بتبني مبادرة الرياض في إطار الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، بوصفها الصك الدولي الوحيد الملزم في مجال مكافحة الفساد، مع وضعه لآلية واضحة لمتابعة التزام الدول بالانضمام لشبكة مبادرة الرياض، من شأنه أن «يدعم موقف المملكة خلال تقييمها مستقبلًا في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، أو التقييمات الدولية ذات الصلة، بما في ذلك تقييم مجموعة العمل المالي (الفاتف)»، فضلاً عن المكاسب الأخرى المتمثلة في تعزيز قدرات المملكة في مجال مكافحة الفساد، من خلال اعتماد الشبكة العالمية والمنصة الآمنة لتبادل المعلومات والخبرات، وهو الأمر الذي يسهم بشكل مباشر في تعزيز قدرة الدول على ملاحقة الفاسدين وأموالهم، والحد من الجيوب الحاضنة لهم حول العالم، كذلك يمنح القرار المملكة الفرصة لتطوير شبكة مبادرة الرياض، والمنصة الآمنة لتبادل المعلومات في إطار اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وهو سينعكس أثره في الحد من الفساد المالي العابر للحدود، ويسهم في القضاء على تلك الظاهرة. كما أنه في المقابل يضعنا جميعًا أمام مسؤوليات كبيرة، في المحافظة على هذا النجاح الذي تحقق، ودعم جهود الدولة في مكافحة الفساد، واستشعار الدور في التبليغ الفوري عن أي حالات تجاوز أو شبهة فساد، تحصينًا لهذا المجتمع من غوائل هذه الآفة، وبسطًا لمفهوم الأمن والسلام في المجتمع، فلا سبيل لأي أمة أن تنهض وتتطور إلا إذا استطاعت أن تجتث الفساد، وتسد الطريق أمام مقترفيه، فما حلّ الفساد في أي بيئة إلا نخر عودها، وأوهن عضدها، وفتّ من قواها، وأذهب ريحها، فالحمد لله على قيادة رفعة راية «وطن بلا فساد»، وحققت هذا الشعار واقعًا ملموسًا، وجعلت منه أيقون عالمية ومطلبًا أمميًّا. والشكر والتقدير لمن رفع اسم بلادي عالياً واعاد لنا موقعنا بين الأمم الراقية

وقضى على الفساد والتنطع والاستبداد وجعلنا نعيش رفاهية الحياة وعشت يا وطني مباركاً آمنا.