عن عمر تجاوز المئة عام لملمَ أوراقه وترك باب مرصده الفلكي مفتوحًا، ورحل إلى الباري عز وجل.

العم صالح العجيري، صاحب أشهر تقويم في المنطقة «تقويم العجيري» الذي كان دقيقًا وعلميًا ومنطقيًا وفق قواعد الحسابات الفلكية المتزنة.

عشق الفلك صغيرًا وتعلق بحركة النجوم فشغف بها إلى الدرجة التي أرسله والده فيها إلى صحراء الجهرة ليتعلم على أيدي رجالها المختصين بالفلك، ففاق معلميه معرفةً وتفوق على أقرانٍ له اهتموا بالفلك لكنهم لم يتعلقوا بأسراره مثله.

درس كمعظم أبناء جيله يومذاك في الكتاب «لمطوع» ثم التحق بالمدرسة، وغادر الكويت إلى جامعة «فؤاد الأول» كما كانت تسمى يومها، وهي جامعة القاهرة الآن ودرس شيئًا من علم الفلك مدفوعًا بشغفه النادر، ثم انتقل إلى مدينة المنصورة لينضم طالبًا في معهد كان فيها تخصص في تعليم الفلك وفك طلاسمه.

ولم يقف طموحه عند ذلك الحدّ بل قام بزيارات معرفية فلكية إلى عددٍ من الدول الأوروبية المختلفة واطلع على جانب من اهتمامه الفلكي هناك.

وما يلفت النظر في سيرته حجم تواضعه وشعبيته، فلم تفقده الشهرة وعلاقته بعلية القوم، تواضع مع الصغير قبل الكبير، وسخاءه في توزيع معارفه الفلكية على كل سائلٍ يطرق بابه أو حتى يلتقي به صدفةً فيجيب عن أي سؤال عن الطقس وتقلبات المناخ وغيرها من مواقيت صيام وصلاة وأعياد ومناسبات بكل أريحية.

فكان مكتبة فلكية عامرةً وزاخرة بالمعارف الفلكية يقدمها ببساطةٍ وسهولة بما يعكس عمق تمكنه واتساع معرفته بعلم عشقه وأخلص له وتفانى في متابعة تطوراته، فلم يكن وقد بلغ من العمر ما يدفعه لأن يستريح ويكتفي بما لديه من مخزون معرفي فلكي كبير، بل كان يتابع بدليل قدرته اللافتة على فهم التحولات الطارئة والجديدة فلكيًا.

دفعه شغفه العلمي بالفلك لتأسيس مرصد فلكي اعتمدته الحكومة الكويتية باسمه، كما كرمته الكويت نظير جهوده العلمية، ومنحه أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح «الدكتوراه الفخرية»، ونال قلادة مجلس التعاون للعلوم في العام 1988م.

قبل وفاته قال إنه لا يخشى الموت ولكنه يخشى على أبنائه من بعده، رحمة الله عليه.

ومن أمنياته التي كان يرددها أن يجتمع المسلمون على الصيام في يوم واحد في رمضان ويحتفلون بعيد الفطر معًا في احتفالية إسلامية شاملة، لكنه توفي إلى رحمة الله ولم تتحقق أمنيته.

لقد كان العم المرحوم صالح العجيري مثالاً ونموذجًا لعدة أجيال في تقديم المثال على جدية العمل والبحث والاطلاع واستمرارية ذلك بدون توقف، وكم نتمنى من أبناء هذا الجيل أن يدرسوا سيرته ومسيرته ويتأملوا بعمق ويتفكروا في مثابرته وإصراره حتى وصل إلى ما وصل إليه، بما يعطيهم دروسًا في حياتهم المستقبلية وفي تحقيق أحلامهم وتطلعاتهم التي تحتاج إلى مثابرة حقيقية وطول صبر ومراس وقوة تحمل واجتهادٍ وجدية.

العم المرحوم صالح العجيري لم يصل إلى ما وصل إليه بسهولة ولم تقدم له الإمكانيات، ولكنه وبإصراره وعزيمته وجده واجتهاده حفر اسمه وخلّد ذكره في ذاكرة الأجيال من بعده.

وكم يزخر خليجنا العربي بمثل هذه النماذج الرائعة التي شقت بالصبر والاجتهاد وبطلب العلم والمعرفة وطول المثابرة طريقها، لتقدمها للجيل الخليجي الجديد دروسًا مقررة في المناهج ليغرفوا من سيرتها وليعرفوا أن الطريق إلى المعرفة شاق وطويل وصعب وليس سهلاً.