هناك إجماع على أن للحوار دورا مهما في بناء مجتمع خال من الظلم وفرض الرأي، فبالحوار يمكن للإنسان التعبير عن حاجياته وإيصال رأيه في جميع ما يخص علاقاته الاجتماعية. كما تصالح الجميع على أن الحوار هو أهم الوسائل التي تنشر التفاهم والمحبة بين الإنسان، وكذا فإن الحوار يقف ضد مجموعة من الانتهاكات للحرية الشخصية في التعبير عن الرأي الشخصي حول ما يخص محيطه الاجتماعي، وهكذا في طريق العنصرية بين الفئات المجتمعية، لذلك فالإنسان في مسيس الحاجة إلى الحوار في حياته الأسرية والاجتماعية ككل.

لكن مجتمعنا العربي ابتلي بالعنف الديني، الذي أصبح القاسم المشترك بين تنظيم الدولة الإسلامية وأحزاب ولاية الفقيه وميليشياتها من جهة، والحروب الأهلية من جهة أخرى. ولعل السبب الرئيس وراء استشراء ظاهرة العنف الديني وميليشيات اللاهوت هو غياب مبدأ “القبول بالآخر المختلف” في الثقافة العربية، برغم أن القبول بالآخر المختلف مقولة دينية وأخلاقية وحضارية، كما هي مقولة سياسية ترتكز عليها الديمقراطية لتأكيد صفة التعددية.

القبول بالآخر المختلف مبدأ قديم قدم الإنسان والتاريخ والحضارة، أخذت به الأديان والمذاهب الفلسفية والفكرية والسياسية، ورفضته أخرى فكانت النزاعات والحروب. مع أن الإسلام نفسه يدعو إلى القبول بالآخر ويحث عليه، طبقا للنص القرآني “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”.

يعزو الدكتور عبدالستار الراوي أستاذ الفلسفة وتاريخها في جامعة بغداد سابقا، في دراسة نشرتها له مجلة أوراق فلسفية في القاهرة سنة 2017 بعنوان “مشروع حسن حنفي في التراث والتجديد”، غياب القبول بالآخر المختلف في الثقافة العربية إلى أسباب عدة، منها:

– موجة التعصب الديني التي تسود العالمين العربي والإسلامي، تؤججها وتذكيها بعض الأحزاب والقيادات الدينية من جميع المذاهب، وتحشو عقول الجماهير، وخصوصا الشباب منهم، بالمفاهيم الخاطئة عن العلاقة بين المسلمين أنفسهم على اختلاف مذاهبهم، وبين المسلمين وغير المسلمين من أبناء الوطن الواحد.

انهيار قيم التسامح والاعتدال، واستشراء التطرف والغلو في الدين والسياسة، والمؤسف حقا أن التطرف والغلو في المجتمعات العربية تغذيهما أطراف رسمية وسياسية ودينية

– التربية والتعليم والتنشئة، حيث يربى الطفل في البيت والمدرسة والمحيط الاجتماعي على عدم التسامح. وفي أكثر الدول العربية مازالت مناهج التربية الدينية والاجتماعية والوطنية تفتقر إلى المواضيع التي تحث على التسامح وقبول الآخر، بل هناك دول عربية تحث مناهجها الدينية على قتل المخالف لمذهبها ودينها.

– انهيار قيم التسامح والاعتدال، واستشراء التطرف والغلو في الدين والسياسة، والمؤسف حقا أن التطرف والغلو في المجتمعات العربية تغذيهما أطراف رسمية وسياسية ودينية (حكومات وأحزاب) لتحقيق مصالح شخصية.

– غياب المشروعين الوطني والقومي اللذين يستوعبان طاقات الجميع من خلال الممارسة الديمقراطية ويوظفانها لصالح المجتمع، وهو ما أدى إلى بروز الاتجاه إلى الانضواء تحت عباءة الطائفة أو العشيرة أو القبيلة، بعدما غابت مظلة الوطن الجامعة.

لكن هذه ليست أكثر من صورة جانبية للواقع الذي تعيشه الأمة اليوم، فقد توالت على البلاد خيبات الأمل واحدة تلو أخرى، وفي أوساط نار العنف الموقدة، فكل حزب بما لديه فرح، هو وحده المحتكر للحقيقة، وهو الأولى من سواه بالقبض على ناصية الحكم. ومع هذه الصراعات الحزبية والمعارك الصغيرة ضاع المواطن، وسحقت حقوق المواطنة، حتى ليبدو لأكثر المتفائلين أنه بات من المتعذر، إن لم يكن من المستحيل، استعادة اللحظة التاريخية من جديد لصالح البديل الوطني أو القومي أو الإسلامي بسبب غياب المثل الأعلى الذي يعبر عن وحدة الأمة والذي يبحث عنه الشباب فلا يجدونه إلا في الهجرة خارج الأوطان أو في الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، الليبرالية أو الماركسية أو الناصرية. ولم يبق للمواطن في الداخل، أو للأوروبي في الخارج، إلا خيال الماضي أو سحر الشرق، والفتوحات الأولى، وفي حمل السلاح والشهادة، وفي العادات ووضع النساء للجنس كسبايا وغنائم ورق ونكاح.

الحل يكمن في الدفاع عن الدولة الوطنية، والقضاء على استبدادها وفسادها وإقامتها على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، وحقوق الإنسان كبؤرة صغرى. ثم إقامتها على الدولة القومية كبؤرة ثانية تجمع العرب. فالعرب قاعدة الإسلام، لا فرق بين مسلم ومسيحي ويهودي. وكل من تحدث العربية فهو عربي. وإقامة دولة فيدرالية، بين الوحدة الاندماجية والجامعة العربية، ليست بأقل من الاتحاد الأوروبي. ثم إقامتها على الدائرة الثالثة الأوسع؛ الأفريقية – الآسيوية التي يجمعها الإسلام. فالإسلام ثقافة.

الحل هو هذه الدوائر الثلاث، الصغرى والوسطى والكبرى. وإعادة بناء الفقه القديم من فقه الجَلْد والرجم والصلب وقطع اليد والرق والسبايا، إلى فقه الثورة والتحرر والعدالة الاجتماعية والتنمية والمواطنة والمساواة بين الرجل والمرأة.

قد لا يكون هذا التحليل صحيحا، ولكنه صوت آخر، يصيب أو يخطئ، فهو يصب في خانة تعدد الآراء، ومن خلال هذا التعدد يتحقق الصالح العام.

الحل يكمن في الدفاع عن الدولة الوطنية، والقضاء على استبدادها وفسادها وإقامتها على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، وحقوق الإنسان

العراق بعد الاحتلال، كما يرى الكاتب والباحث العراقي الدكتور حسين العويسي، بنت جدرانه الفصائل المسلحة المتخلفة، التي لا تؤمن إلا بالقتل الذي تدربت عليه في إيران قرابة ثلاثين عاما، عملت مع المحتل وتعلمت منه، وعلاقاتها في ما بينها دائما متأزمة، أيهما يقتل أكثر يفوز بالجائزة والعافرم (الشكر). وعندما تطلب منها حلول سياسية لمعضلة ما، يتوقف عندها المنطق السياسي لجهلها أولا ولطغيان عدوانيتها على إنسانيتها ثانيا. ولأن القتل هو أسرع الحلول، تلجأ لحل النزاعات بأداتها الحربية القريبة والممسوكة باليد، وهذا ما يجري دائما في حل النزاعات العشائرية. فضلا عن أن العراق، الآن، جسد بلا رأس.

الدكتور والمهندس والأكاديمي والسياسي المتمكن يعمل بائعا جوالا، أو عامل بناء، ويعين الجاهل رئيسا للجامعة، والبلطجي مديرا للأمن، والسارق قاضيا، وابن الوزير وكيلا، وابن الوكيل موظفا يجمع الإتاوات. ويدير سياسة البلد معمم يفتي بقتل المخالف لأفكاره، ويأتمر بأمر الموجه الخارجي بعد الله، ويحصل على الحل السريع بالقتل غيلة وإشاعة الفوضى، لأن الجاهل يلائمه وسط التوتر كي يستمر حكمه.

القتل والاغتيال بالنسبة إليهم أسرع الحلول، وإراقة الدماء قوة ردع لمن تسول له نفسه من عامة الناس مخالفتهم. والفتاوى التي تؤمن بتقليل أعداد الذكور العراقيين رائجة، وتقليل النسل وتحديده غاية وهدف استراتيجي، كما حدث في الإبقاء على الأسرى العراقيين في إيران قرابة 35 عاما.

هذا ما يفسر تصاعد حدة الاغتيالات اليومية في العراق، وعدم توقفها برغم العنتريات الحكومية، وهو يوضح أن ما يجري في بلاد الرافدين قد جرى مثله تماما في إيران عندما استبدل الحكام المعممون الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بشعارات لاهوتية عقيمة عن طريق أدلجة المجتمع بعقيدة ولاية الفقيه القاهرة، وتكريس دكتاتورية المرشد أو الحاكم الأبدي، وهو ما يجعل الصراع مستمرا ومتجددا بين الحوزة والجامعة. ومما زاد الهوة بين الطرفين، الإجراءات الإقصائية التي تنتهجها السلطة بحق معارضيها، وقد عبرت عن نفسها بأعلى مستويات الصدام، انتفاضة جامعة طهران في يوليو 1999، حين رفع الطلبة خلالها ولأول مرة شعار الحد من دكتاتورية طبقة رجال الدين، وطالبوا بتمكين محمد خاتمي (رئيس الجمهورية حينها) من المضي في مشروعه الإصلاحي.

ومنذ سنة 1999 وحتى اليوم يشكل النضال الوطني في إيران نسيجا متواصلا من الصراعات السياسية تحت ضغط نظام سياسي ذي بعد واحد، يحتكر الحقيقة والسلطة معا، ولا يرى لأي طرف من خارج عالمه اللاهوتي الحق، حزبا كان أم كيانا أم جماعة، أن يشاركه الحكم. فرجل الدين سايكولوجيا موهوم بالوصاية على الآخرين، لذلك يتقلد الصفة الأبوية في إحكام سيطرته على المجتمع، فالشعب الذي جرد من حق اختيار شكل النظام ومن حق اختيار فلسفة الحكم، هو في شرح ولاية الفقيه وتفسيرها كما الطفل الصغير يحتاج إلى رعاية الفقيه.

ومن هنا فإن التدافع على المشاركة في السلطة أو في العملية السياسية من جهة القوى الأخرى، يعد من وجهة نظر رجل الدين السياسي تخطيا لحق الولي الفقيه، وهو بالضرورة تجاوز على نيابته الإلهية والنبوية ولآل البيت النبوي، فالنيابة الدينية المطلقة لا مكان لغير الروحاني في قيادتها وتولي أمرها. ولن تتردد الطبقة الثيوقراطية الحاكمة عن فتح نيرانها في وجه كل من يحاول أن يفتح بابا أو نافذة للحرية في حجرة اللاهوت المظلمة.

لكن يبدو أن الحالة في العراق أكثر تعقيدا برغم أن الصانع واحد، وترنو عيون العراقيين إلى ثورتهم الشبابية، ثورة أكتوبر، ويرون أنها الوحيدة التي بإمكانها تخليص الوطن من محنته الحالية.