من البديهي القول إن البيئة تلعب دوراً رئيسياً في تقديم مخرجات سلبية أو إيجابية للمجتمع، فهي الحاضة للخير والشر، للأفكار البناءة والهدامة، للسلوك الحضاري والمتخلف، للتطرف والوسطية، للتسامح والضغينة، للعدل والظلم، للجمال والقبح. باختصار، هي موطن كل شيء ونقيضه.

وهناك عوامل جوهرية تشكل أساس الحالة والفعل، عوامل تؤدي إلى انتشار الظواهر، التي ما تلبث أن تسود وتصبح الملمح الرئيسي للمجتمع، وأخطرها التطرف، ليس فقط الديني؛ بل يشمل كل شيء، ويقول المثل «كل شيء زاد عن حده انقلب إلى ضده»، ويمكن السيطرة على أي تطرف في السلوك، وفي المقابل، يصعب السيطرة على التطرف المبدئي، لاسيما إذا انتشر بين العوام والبسطاء وقليلي المعرفة، وهذه الفئة تفتقر للمعلومة والثقافة، وتصدق كل ما يقال، خاصة إذا صدر عن فئة تدعي الورع والتقى، وبذلك يكون التطرف الديني من أخطر أنواع التطرف، فليس أبشع من إنسان يعتقد بأنه المرجع الأول والأخير، وأن كلامه منزّل من السماء.

وتعد الحروب البيئة الخصبة للتطرف، فما ينتج عنها من تهجير لمئات الآلاف من الناس، يجدون أنفسهم من دون مأوى أو طعام، ومن أيتام فقدوا معيلهم، ومن أرامل خسروا سترهم وسندهم، ومن أناس دُمّرت منازلهم وأملاكهم، ومن نساء بلا معين، وأطفال بلا رعاة، كل هذا يشكّل حالة من القهر المشحون بالغضب ويبحث عن متنفس، فتستغل الجماعات المتطرفة حاجة الناس إلى الطعام والشراب والمأوى والمال والحماية، وتنشر أفكارها التي تبدو في ظاهرها دينية بينما باطنها مملوء بشهوة السلطة والتسلّط.

ولا تتردد تلك الجماعات من تجنيد الأطفال والنساء، وبث الكراهية في نفوسهم. وقد انتشرت هذه الظاهرة في المجتمعات التي شهدت ما يُسمى ب«الربيع العربي»، فالتحق أصحاب الحاجة بهم، في ظل غياب المؤسسات الرسمية والجمعيات الخيرية الحقيقية، وغسلوا أدمغتهم بسهولة، لأن معظم المستهدفين جاؤوا من الأرياف والصحاري والمناطق النائية، وقد توافقت أفكارهم مع أفكار أخرى تكفّر «المستبدين والطغاة الذين ظلموهم». وغالباً ما تمارس تلك الجماعات سياسة التجهيل، فتقفل المدارس وتعتمد مناهج خاصة بها.

وهناك أمر آخر يساعد على ظهور التطرف وهو الفوضى واللا استقرار من دون حروب، ومع عجز الدولة على فرض النظام، وهيبتها وملاحقة المجرمين وتطبيق القانون، يغيب الأمن والأمان، فتكثر الجرائم والسرقات والعصابات، ويبدأ الإنسان في البحث عن جهة تحميه، ويجد نفسه أمام أمرين أحلاهما مر، إما أن يلتحق بعصابات أو يدفع لها مقابل الحماية، وإما أن يلتحق بالتنظيمات المتطرفة، ويدفع لها أيضاً الجزية، وحريته، وهناك دول في وقتنا الحالي، فاشلة في تأمين الأمن لمواطنيها، فيضطرون للالتحاق بالفاسدين والمفسدين لتسيير حياتهم، أو الانتماء لكيانات تؤمن بالمذهبية، وكيفما قلّبنا الأمر سنجد فئة في المجتمع تتاجر بأمن الناس وحاجاتهم الدنيوية.

وتلعب أسباب أخرى متمثلة في الفقر وعدم تكافؤ الفرص وغياب العدالة وانتشار المحسوبيات أدواراً في خلق بيئة للتطرف. والمتطرفون صيادون في بحر الجهل والفقر والفوضى وغياب الأمن، ومع مرور الزمن، يتمكنون من خلق بيئة تُقدم مخرجات حادة للمجتمع، لا تؤمن إلا بفكرها ومعتقدها، ويتحول المجتمع إلى طيف واحد، وهنا قمة التخلّف والتعسّف وانتهاك حقوق الإنسان.

من هنا، على منظمات المجتمع الدولي العمل على تجنّب الحروب في أي مكان في العالم، ومحاربة الخارجين على القانون والعصابات، والسعي لتوفير الأمن والاستقرار، ونشر مبادئ التسامح والتعايش وفلسفة قبول الآخر، وتعزيز ثقافة السلام بين الناس، ومراقبة الظواهر غير الصحية للتعامل معها في مهدها، لتأمين بيئة إيجابية تعمل على التنمية في المجالات جميعاً. وعلى المفكّرين الاستراتيجيين أن ينظروا إلى العالم كبيئة واحدة والابتعاد عن التمييز بين المجتمعات على أساس اللون واللغة والمعتقد.