بات من المفروغ منه مع انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أن مشكلات السودان اليوم تتعلق بالترتيبات والإجراءات التي تتخذها سلطة المكون العسكري في الخرطوم سلباً وإيجاباً، وتنعكس مفاعيلها على الأطراف بطريقة ميكانيكية كما لو أنها مدروسة. وليس من عذر اليوم لمن لا يقدر على ملاحظة الربط الواضح بين حركة الأحداث (مثل عمليات شد الأطراف التي شهدها شرق السودان وغربه) وبين من يحرك تلك الأحداث في المركز طوال الأعوام الثلاثة الماضية، لأن كثيراً من الأحداث التي يمكن أن نفسرها في ضوء الانقلاب اليوم، تُعتبر بمثابة إجابات كاشفة عن أسئلة غامضة لطالما رسمت علامات استفهام على وجوه كثيرين، عجزوا عن ربط الأحداث بأسبابها التي كانت شبه غامضة، آنذاك، لكن اليوم وفي ظل معطيات كثيرة، سيكون من السهولة بمكان تفسير أسباب تلك الأحداث في ضوء نتائج انقلاب 25 أكتوبر الماضي. ولعل شرق السودان الذي سُلّطت عليه الأضواء كثيراً خلال الاضطرابات التي وقعت في بعض مدنه على شكل موجات اقتتال أهلي مفتعلة بين بعض مكوناته، في الأعوام الثلاثة الماضية، خير دليل يفسر لنا علاقة الربط القوية بين انقلاب 25 أكتوبر وتلك الأحداث التي خفَّت فجأة واختفت رويداً رويداً في الشرق!

وخلال زيارة نائب رئيس مجلس السيادة الفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي" إلى شرق السودان الأسبوع الماضي، تكشفت أمور كثيرة بعد مجموعة الإجراءات التي اتخذتها سلطة الانقلاب حيال بعض الأمور التي تعلقت بأحداث شرق السودان، لا سيما تلك الترتيبات التي حاول بها المكون العسكري حل إشكالات ترتبط بقضايا الشرق، والفتنة التي تسببت في اقتتال بعض مكوناته.

وفي تقديرنا، إن تماهي المكون العسكري وسعيه في ما يظنه طريقاً للحل حيال قضايا الفتنة الأهلية في شرق السودان، يمثل جزءاً من الطرائق العقيمة لنظام "الإخوان المسلمين" السابق، فلا يزال شرق السودان هو التعبير الأمثل لاشتغال أنظمة الإدارة الأهلية عبر تسييس القبائل، والأكثر تماهياً في قابليته للاستجابة إلى واقع الفتنة، نظراً إلى إشكالات التخلف التي لا تزال تحكم كثيراً من مناطقه.

فاليوم مثلاً، أصبح واضحاً أن رهان ما يُسمّى بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا" الذي يقوده ناظر الهدندوة، الناظر محمد الأمين ترك، على الأسباب التي كان يمارس بها منظوراً قبائلياً للسياسة، أصبح رهاناً متصدعاً، فيما كشفت ممارساته عن تناقضات مريعة وعقيمة في خلوّها من أي معنى للسياسة والحكمة.

لقد ظلت الفتن التي نشط فيها هذا المجلس عبر مزيج مركّب من الادعاءات التي تخلط بين متناقضات كثيرة، كان يبررها بمنطق أعوج بعض قادته – الذين كانوا جزءاً من النظام القديم - بطريقة أقل ما يقال عنها إنها طريقة مثيرة للشفقة، ودالة بذاتها على عدمية سياسية، تخلط بين العنصرية والإقصاء والتخبط والمجازفات، حتى ليشعر المراقب لأفعال قادة هذا المجلس وأقوالهم أنهم بمثابة من يعيد اكتشاف البديهيات في زمن تجاوز تلك البديهيات بكثير.

وفي تقديرنا أن الذي ساعد على تعويم تلك السرديات المضللة في المقولات الفقيرة والعقيمة لقادة المجلس، هو الزمن المديد الذي مهدت له عبر ثلاثين عاماً، سياسات النظام القديم في تسييس الإدارة الأهلية وفتنة قادة القبائل بتوريطهم في العمل السياسي.

ولعل في الحدث الذي جرى قبل يومين بمدينة سنكات أثناء حفل نظمه المجلس الأعلى لنظارات البجا بمناسبة زيارة حميدتي إلى شرق السودان، ما يدلّنا على بعض الحقائق التي تكشفت لكثيرين من أتباع المجلس (وهي حقائق لطالما حذرنا منها كثيراً). ففي المناخ الثوري الذي ينتظم مدن السودان جميعاً استياء من انقلاب 25 أكتوبر عبر المليونيات الثورية التي تسيرها المدن السودانية، كان بمثابة لحظة كاشفة، تلك اللحظة التي ردد بعض الحاضرين في الحفل في وجه حميدتي والناظر ترك، شعاراً ثورياً يقول: "الثورة ثورة شعب والسلطة سلطة، والعسكر للثكنات والجنجويد للحل"، في إشارة إلى ضرورة عودة الحكم المدني بعودة العسكر إلى ثكناتهم (التي هي مكانهم الطبيعي)، وكذلك حل ميليشيا الدعم السريع التي يقودها "حميدتي" (التي يُطلق عليها في السودان الجنجويد – وهي كلمة تعني: "الجن الذي على ظهر الخيل" - نظراً إلى المذابح التي ارتكبها الجنجويد في دارفور)، فتلك الهتافات استفزت الناظر ترك واضطرته إلى القول صراحة وفي وجه الجميع: "نحن نريد الحكم العسكري".

هذه الحادثة (التي تكرر مثلها حينما كرّمت نظارة البني عامر المتحدة حميدتي في بورتسودان) تدلّنا اليوم بوضوح على أن كثيراً من الأوهام عن مجلس ترك، وعن مقاربة الشأن السياسي من منظور قبائلي في شرق السودان عموماً، إنما كان تضليلاً للبسطاء عبر تعويم قضايا تثير الكراهية ونبذ الآخر، وتضخ الفتنة وتنادي بالإقصاء لمكونات أخرى بطريقة لا تعكس حسّاً وطنياً، ولا تعرف إدراكاً لهوية المواطنة ومفهوم الوطن.

ونظراً إلى أن تلك الطريقة التي كان يستخدمها مجلس ترك في مقاربته القبائلية لقضايا السياسة هي طريق ملكي لخراب شرق السودان، نرى اليوم بوادر التصدع لهذا الجسم الذي طالما زيَّف أمينه السياسي لعوام البسطاء من خلال وعي مفكك، تركيباً متهافتاً لسردية مضللة تقوم على مزيج واهٍ ومرتبك من الدعاوى، التي تخلط المواطنة بالقبيلة والوطن بمفهوم الحيازة القبلية وأراضي العشائر من أجل تعويم تصور قديم لما قبل الدولة، كشعار ووسيلة الهدف منهما الاستحواذ على مناصب سلطوية وقيادية عليا لإثنية واحدة في المدن القومية الخمس لشرق السودان. وخطورة هذه السردية أنها فذلكة، تخلط عمداً بين حقوق المواطنة العامة في المدن القومية بشرق السودان، التي تسمح لأي سوداني بتولّي المناصب القيادية والإدارية العليا، وبين تعويم حق الحيازات القبلية المحلية كسبب للاستحواذ على المناصب الإدارية والسياسية العليا كحق مخصص لإثنية واحدة. ولا يخفى ما في هذا المنطق الأعوج من دعوة إلى إثارة الكراهية عبر طريق ملكي للحروب الأهلية في شرق السودان. وللأسف أن ما لا يدركه كثيرون، هو أن هذا الانحدار إلى الاحتكار القائم على الحيازات القبلية كتعريف للوطن، إنما هو نتيجة لما كرّسه نظام الإخوان المسلمين لثلاثين عاماً من تسييس للإدارة الأهلية وتخريب للبيئة السياسية وتغيير قواعدها بإيهام نظار القبائل: أنهم قادة سياسيون.

وكما لا يخفى على كل مراقب لأحداث فتنة الاقتتال الأهلي في بورتسودان عام 2019، التي نجمت بين بعض أبناء البني عامر والحباب وبعض أبناء البداويت إثر ندوة سياسية، أن وفد الحكومة السودانية الذي جاء من العاصمة لتدارك الأمر بقيادة عبدالله حمدوك، آنذاك، حينما قبل بما سُمّي بـ"وثيقة القلد" (وهو عرف قبلي بدوي تتعاهد فيه قبائل البادية إثر اقتتالها على المياه والأرض) وما تضمنته بنود أخرى كترسيم الحدود بين القبائل ومراجعة الهوية الوطنية، إنما قبلها وفد الحكومة، فقط، بهدف تسكين الأوضاع وتهدئة الأمور وليس - كما توهّم البعض - أنه قبلها من أجل تنفيذها!

ومنذ عام 2019، لا تزال الأجندة السياسوية لما سُمّي بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا"، تدور حول هذه البنود، إضافة إلى رفض مسار شرق السودان في اتفاقية جوبا للسلام. وبقليل من التأمل والتحليل في تلك البنود، سنجد أنها بنود لا علاقة لها بالسياسة، وإنما هي بنود تعكس هواجس قبائلية بامتياز. فكيف يمكن تحكيم "القلد" في صراع أسبابه سياسية، وكان الاقتتال فيه في المدينة، فيما القلد هو آلية عهد للقبائل في البادية؟ ثم كيف تتم الدعوة إلى ترسيم الحدود بين القبائل نتيجة لاقتتال تم بين مواطنين في مدينة هي أصلاً مدينة قومية، فيما ليس هناك أي سبب يدعو إلى تحديد حدود القبائل ما دام ليس هناك قتال بينها على تلك الحدود؟

كما أن قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا لا يدركون، بل لا يريدون إدراك: أن قراراً مثل قرار مراجعة الجنسية هو قرار لا يملكه حتى رئيس جمهورية السودان، لأنه قرار لا يمكن اتخاذه إلا إذا توافر فيه شرطان: الأول أن يكون قراراً يتخذه برلمان حر بالغالبية، والثاني أن تكون مراجعة الجنسية والهوية مراجعة شاملة لكافة أطراف السودان. هذا ناهيك عن رفض المجلس لمسار شرق السودان لأسباب عنصرية، هي الأسباب ذاتها التي تم بها رفض والي ولاية كسلا السابق صالح عمار.

كل تلك الغرائبيات السياسوية التي أوهم بها مجلس ترك كثيرين من البسطاء، أصبحت اليوم لعبة مكشوفة إثر انقلاب 25 أكتوبر الماضي، وهو الانقلاب الذي طالما دعا إليه الناظر ترك، وتم من أجل التسريع به قفل موانئ البحر الأحمر من قبل أنصاره لأكثر من شهر، في اعتداء واضح على الحقوق المدنية المشروعة للمواطنين. كما اختفت فجأة المسببات التي كان يحاك بها كثير من فتن الاقتتال الأهلي تحت سمع وبصر وصمت اللجنة الأمنية لولاية البحر الأحمر.

اليوم، في ظل الحراك الثوري الذي ينتظم السودان وفي ظل الأزمة الدستورية والمعيشية الطاحنة التي تسبب فيها انقلاب 25 أكتوبر الماضي، انفجرت التناقضات وسقطت الأقنعة عن كيان المجلس الأعلى لنظارات البجا والكيانات الشبيهة له، بحيث اكتشف أتباعه حقيقة الأوهام التي كان يسوغها لهم، وسط أنباء عن استقالة بعض قادته.

إن واقع السودان اليوم ومشكلاته، كما ذكرنا في بداية المقال، توحدت في سبب واحد هو انقلاب 25 أكتوبر الذي يتحرك الثوار اليوم ضده في كل المدن السودانية عبر المليونيات التي لا تفتر ولا تنقطع.

فهذا "الانقلاب المشؤوم" كما كشف لنا اليوم أي حال قادنا إليها، كذلك كشف لنا عمَّن هو المتسبب في أسباب الفتن التي كانت تحدث عبر عمليات شد الأطراف في كل من شرق السودان وغربه.

لهذا من المهم اليوم أن يصطف الثوار في شرق السودان حول مشروع ثوري واحد ضد الانقلاب، وأن يعرفوا من هم أعداء الشرق الحقيقيين، من العنصريين والقبائليين وأنصار الثورة المضادة الذين اتضح تماماً من هم بعد انقلاب 25 أكتوبر.

إن طريق الثورة اليوم هي طريق واحدة تتمثل في توحيد الجهود ضد انقلاب 25 أكتوبر، والاستمرار في تحشيد قوى الثورة حتى إسقاط هذا الانقلاب وإسقاط المتحالفين معه. فبغير هذه الطريق، لن تتحقق شعارات الثورة السودانية في الحرية والسلام والعدالة.