لقد تأسس عدد من الهيئات بوزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية، وذلك لتحقيق رؤية المملكة 2030 ومنها هيئة التراث، لما نطمح إليه من اكتشافات وكشوفات وثقافة ووعي واطلاع ومعرفة الحضارة الإنسانية بهذه الأرض.. ومع بواكير عمل هذه الهيئة المهمة للحفاظ على الإرث والحضارة يطالعنا كشفها الذي تعتبر شهقة كبيرة للهيئة وللإرث الحضاري، والذي دوَّنا معظمه في موسوعتنا (الجزيرة العربية المكان والإنسان).

هذا الكشف كما أعلنته الصحف المحلية والعربية، وهو إعلان الرئيس التنفيذي لهذه الهيئة سعادة الدكتور جاسر الحربش عن اكتشاف أثري يعد الدليل العلمي الأول على أقدم وجود للإنسان على الجزيرة العربية، والذي يعود تاريخه إلى 120 ألف سنة، هذا الكشف الذي تم من قِبل فريق سعودي دولي مشترك، والذي يقع حول بحيرة قديمة جافة على أطراف منطقة تبوك، هو ما يعزز ما كتبناه في دراستنا الموسوعية عن مهد الحضارة في الجزيرة العربية، والذي أخذ منا ما يقرب من عشر سنوات من التدقيق والبحث، حتى توصلنا فيها بالتوثيق العلمي إلى أن الجزيرة العربية قد نشأت بها أقدم الحضارات الإنسانية على وجه الأرض.

وفي هذا المقام نذكر على سبيل المثال حضارة العصر النيوليتي، ثم عصر البرونز، ثم عصر الحديد في تقدم الحضارة، ويمكن تطبيقها على المناطق التي تأثرت بحضارات منطقة جنوب غرب آسيا، كما ذكر لنيتون. بل ربما امتد تاريخها أكثر عمقاً وتوغلاً في عصور ما قبل التاريخ، "فقد تمت اكتشافات تنبئ بتاريخ قديم لتؤكد ما ذهب إليه لنيتون على الرغم من زمن ليس بالقليل على ما ذكره في كتابه "شجرة الحضارة" وعلى سبيل المثال اكتشاف حضارة العُبيّد". وفترة العُبَيّد (5300-4000 ق.م) وهذه الحضارة التي تم اكتشافها من قِبَل فِرَق التنقيب الغربيين، أشير إليها بأنها كانت فترة ما قبل التاريخ وتخص الشرق الأدنى مثل تل العُبَیِّد -الواقع غرب مدينة أور في جنوب العراق، ضاحية ذي قار- اسمه فخار العصر الحجري الحديث العائد لفترة ما قبل التاريخ، ومنح اسمه أيضاً لحضارة العصر الحجري النحاسي التي تمثل أولى المستوطنات في السهل الرسوبي لجنوب بلاد ما بين النهرين والخليج العربي ووسط الجزيرة العربية وشرقها. ثقافة العُبيِّد بدأت منذ نحو 5300 ق.م واستمرت حتى بداية فترة أوروك 4000 ق.م.

إن أغلب المكتشفات كانت لصناعة المجوهرات والأواني الفخارية، وشهدت فترة العُبَيِّد اختراع عجلة الفخار، وبداية العصر النحاسي كما اتسمت بمستوطنات قروية كبيرة وبيوت مستطيلة الشكل ذات غرف عديدة مصنوعة من الطين المشوي (آجر) مع ظهور أول المعابد العامة وفق هندسة معمارية متشابهة، كما تُظهر السجلات الأثرية أن فترة العُبَيّد وصلت إلى نهاية مفاجئة في الخليج العربي وشبه جزيرة عُمان في عام 3800 قبل الميلاد، وقد اختلف الكُتَّاب والمؤرخون في نطق اسم هذه الحضارة، إلا أن المتحف الوطني قد حسم الخلاف، "فقد اعتاد بعض المؤرخين كتابة اسمها بـ "العبيد"، إلاَّ أن متحف كنوز المملكة العربية للآثار -المتحف الوطني بالمملكة العربية السعودية- قد صحح المسمى بكتابته بهذا الشكل (العُبَيْد)، أما حضارة "الدَّلمون" فقد تم اكتشافها في أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية.

وقد اعتنى عالم الآثار والباحث الأميركي (بيتر كورنوول) بهذا الخصوص في الخمسينات من القرن الماضي باكتشاف حضارة "الدلمون"، كما أوردها في أطروحته لنيل درجة الدكتوراه من جامعة هارفرد بعنوان "الدلمون". وقد تأخر اكتشاف هذه الحضارة في هذه المنطقة وتوالى عليها المنقبون الدنماركيون والأميركان وغيرهم.

فالحصول على دليل لوجود مستوطنة كان عمرها أربعة آلاف عام أو أكثر أمر ليس باليسير، فقد تم ذلك من خلال الحفريات التي أجريت من خلال العثور على أدوات كان يستخدمها الإنسان في ذلك الوقت كالأختام ومتاع القبور، ومن خلال أنماط العمارة.

ولعل تحليل بقايا العظام والهياكل العظمية تحدد عمر الموتى والمواقع نفسها، وبذلك فإن موقع قلعة البحرين ما هو إلا أحد المواقع المهمة التي جرى التنقيب فيها من أجل الكشف عن حضارة "دلمون" بجانب موقعين آخرين مهمين هما موقع باربار وسار.

لقد أثار هذا الكم الهائل من المدافن التَّلية في البحرين -والتي يقدر عددها بما يتراوح ما بين 100-150 ألف- اهتمام الباحثين الذين توصلوا إلى نتيجة مهمة مفادها وجود أكبر مقبرة في فترة ما قبل التاريخ، وما صاحبتها من حضارة دلمون. فهذا الفضاء الشاسع من المدافن وطريقة بنائها لا بد أنه كان تعبيراً عن ممارسات طقوسية وعقائدية سائدة آنذاك، كما كانت جزءاً من ثقافة حضارة إنسانية سالفة. فقد كان هناك اعتقاد سائد بأن جزيرة البحرين كانت تعتبر أرضاً مقدسة في نظر الدلمونيين، لذلك فضلوا جلب موتاهم ليدفنوا فيها من البلاد المجاورة. إلا أن هذه الفكرة قابلة للشك وخصوصاً بعد أن تم التأكيد على وجود قبور تلِّية على الساحل الشرقي للجزيرة العربية في منطقة الإحساء، الأمر الذي يدل على أن حضارة دلمون كانت ممتدة على طول الساحل المعروف قديماً بإقليم البحرين، الذي تشكل جزيرة البحرين جزءاً منه.

كما أن هناك تقسيمات فرعية لكل من هذه الفترات متعلقة بتفاصيل محلية، مثل: اكتشاف الزراعة، وتعلم تدجين الحيوان نحو 9000 سنة قبل الميلاد، وتطوير الأدوات الحجرية، والاستقرار وإنشاء القرى، وبداية استغلال المعادن، وتطور النظام الغذائي للإنسان كنتيجة لازدياد كمية الحصص الغذائية وتنوعها بشكل أكبر من السابق.

لقد تأخر البحث والتنقيب عن هذا الإرث الآركيولوجي بالجزيرة العربية، نتاج فكر معين سابق بأن هذه الآثار لا يجب الحديث عنها أو تداولها إن جاز التعبير، ولكن بمقتضى رؤية 2030 تم تغيير هذه المفاهيم الخاطئة وبدأت الكشوفات، ومنها هذا الكشف الذي أشرنا إليه سلفاً؛ فهذه الأرض تسبح على بحيرة كبيرة من الإرث الإنساني المجيد!