معظم ما في الحياة من نوادر وعجائب وطرائف تأتي أصحابَها صدفة وعلى غير معياد، أن تعيش في مكان ما دون غيره صدفة، أن تكون ابنا لفلان وفلانة صدفة، أن تمهر في أمر، رماية سباحة نجارة تجارة حياكة، صدفة، كثير مما يجري في الحياة تحكمه الصدفة، ولكنه يُصبح بعد ذلك عند أصحابه كأنّما قصدوا إليه وأرادوه وقضوا ليلهم ونهارهم في تحصيله! حين تعلّمتُ السباحة تعلّمتها؛ لأنّ مَنْ حولي كانوا سبقوني إليها، وحينما تعلّمت الكتابة، ولم أتعلم النجارة، كان الذين يُحيطون بي يدفعوني إليها ويحضّونني عليها (إذا اجتمعت نون الرفع ونون الوقاية جاز إثباتهما أو حذف إحداهما) وهذه الحال التي تمرّ على البشر، ويخضعون لها، ويستسلمون لسلطانها؛ هي التي جعلتْ الخارجين عن الصدفة، والمائلين أحيانا عنها، قدوات بهم يسْتَنّ الناس، ومنهم يتعلّمون متى كان ما أتوا حسنًا عندهم، جميلا في نظرهم، وإنْ كان ما خرجوا إليه يضحى بعد ذلك من قبيل الدروب المطروقة التي يأتي عليها ما أتى على ما قبلها، فيُصبح وقوع الناس فيها، بعد صاحبها الأول، صدفةً قاد إليها قدرُ المكان والزمان!

لا أعرف في تاريخنا الإسلامي سيرة كتبها صاحبها، وحكى فيها ما كان في زمنه، وساق أثناءها أجواء حقبته، إلا ما كان من ابن خلدون (ت: 808هـ) الذي ألّف كتابا في التعريف به وبرحلته إلى الشرق من تونس، ولعلّه يكون أول من سنّ هذه السبيل، فلست أعرف قبله أحدا، ولا اشتهر بعده فيها أحد، فلم يُسبق بمثال ينسج عليه، ولم تنتقل تجربته إلى غيره، وهو نموذج صالح لمن خرج عن شِراك الصدفة في هذه القضية، ولكنّ صدفته هذه لم تجد مَنْ يقتفي أثرها، ويمضي على خطواته فيها، ولعل مَنْ بقي من علمائنا، ولم تُغيّبهم عن مسرح الحياة يدُ البِلى، يتركون لأجيالنا مثلما ترك ابن خلدون لأهل زمانه، ولنا بعدهم، ويجمعون في سيرة وجيزة ما يُحبّونه في أجيال المسلمين وينتظرونه منهم؛ فالسيرة تنبيه للغافل، وإيقاظ للوسنان، وتحريض للسائر أن يصل الطريق ويوسّع خطواته فيه، وفيها يعرف الشادي ما يخافه على نفسه من الزمان وأهله ويقف على آداب طريق الحياة، ويرى امتحان غيره فيها، فيزداد رشادا، ويتكامل فهما.

مَنْ مِن علمائنا في الخليج ترك لنا سيرته، واتّخذ السرد والقصّ والحكاية دربا إلى إيصال ما علّمه الله من العلوم وفقّهه فيه من حوادث الزمان؟ كثيرٌ من العلماء حين يُدعون إلى محاضرة، ويُطلب منهم فيها إرشاد الناس؛ يُقبلون إليها والبشر على وجوههم، ويرون في ذلكم فرصة لا تُردّ، فما بالهم يَدَعُون تدبيج سِيَرهم، ويغفلون عن تركها لمن بعدهم، وهم قادرون فيها على ما أحبّوا أن يقولوه ويُوصوا الناس به ويحثونهم عليه؟

في الناس ناسٌ تُصاغ الحياة في قوالب من ألفاظهم، بها يستغني مَنْ حولهم، ومنهم جمعٌ كبير في بلادنا والخليج، من أمثال الشيخ صالح بن حميد والشيخ صالح آل الشيخ والشيخ سعد الشثري، وغيرهم ممن لم أذكرهم وهم بالذكر جديرون، هذه الكوكبة متى دوّنت سيرها، وبذلت لها من وقتها، قدّمتْ الكثير الكثير للأجيال، وأسعفتهم بنماذج حيّة في النصح والتوجيه والسعي والخبرة، وما شيء أنفع للمرء من تجارب قدواته! وذاك أمر فطن له الحكماء من قديم الزمان، وفيه يقول الحكيم الروماني سينيكا (ت: 65م) في رسائل منفاه: "ثمّة ضرورة في رأيي لشخصٍ يكون معيارا، تستطيع شخصياتنا أن تقيس نفسها به. لن تستطيع تقويم الاعوجاج بدون مسطرة".

بقي لنا ابن خلدون (ت: 808هـ) وسيرته، وجميعنا يسمع به ويعرف قدره، لقد خلّف لنا هذا القدوة سيرة مكتوبة، جمع فيها حوادث حياته وخبراته فيها، فخلدون هذا الذي اقترن اسمه به هو جده العاشر، واسمه حسب رواية ابن حزم خالد، غير أنّه عُرف بخلدون، وكانت ولادة صاحبنا حسب روايته في تونس سنة ثنتين وثلاثين وسبع مئة.

حفظ القرآن، وقرأه على شيخه بالقراءات السبع المشهورة، وكان والده أحد أشياخه، وحكى عن بعضهم أخذ الفلسفة والعناية بها، بل ذكر أن شيخا من شيوخه: "اختفى بفاس عند شيخ التعاليم من اليهود؛ فاستوفى عليه فنونها وحذق" وعُني بالشعر، وأخذ نفسه كما يقول به، فانثالت عليه منه بحور، ومن قوله وهو كثير:

للهِ عهدُ الظاعنين وغادروا .. قلبي رهينَ صبابةٍ ووجيبِ

وشكا في سيرته من أهل زمانه، فحكى ما كان فيها من اضطرابات سياسية، وساق بعض ما واجه في مصر من المنتصبين للشهادة حين كان قاضي المالكية هناك، وحدّثنا عن فوضى الفتوى فيها، ومثّل لنا بقصصٍ التنافسَ بين العلماء وكيد بعضهم لبعض، وأخبرنا بالنهاية المؤلمة لأسرته حين قدموا إليه من تونس إلى مصر "فما هو إلا أنْ وصلوا مرسى الإسكندرية، فعصفت بهم الرياح وغرق المركب بمن فيه، وذهب الموجود والمولود" وألمح إلى قصة كتابة مقدمته الشهيرة بين الناس.