شهد الأسبوع الماضي تظاهرات حاشدة في العاصمة السودانية الخرطوم وعدد من مدن السودان لمناسبة ذكرى انتفاضة 6 أبريل (نيسان) التي أطاحت نظام الجنرال جعفر نميري عام 1985. والذكرى ذاتها كانت اليوم الموعود لحشود السودانيين عام 2019، ما أدى، بعد ذلك، إلى إسقاط البشير في 11 أبريل 2019 بعد أقل من أسبوع.

بالتأكيد، خرج مئات الآلاف من السودانيين في تظاهرات الخميس الماضي، لكن الدرس الأكبر من هذا الخروج لقوى الثورة السودانية لا يمكن قياس نجاحه بسقوط أو عدم سقوط نظام الانقلابيين (بقيادة عبد الفتاح البرهان وحميدتي)، كما يظن الانقلابيون أنفسهم، بل يكمن في ما هو أعظم من ذلك بكثير، أي في القرار النهائي للشعب السوداني الذي بات مدركاً أن سقوط الانقلابيين مسألة وقت فحسب. وبات الشعب عازماً على مقاومة الانقلابيين حتى الرمق الأخير. فخروج مئات الآلاف من السودانيين بانتظام منذ انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حتى اليوم وغداً، يمثل بذاته علامة فارقة للتحدي في موقف الشعب من بقايا اللجنة الأمنية لنظام البشير التي تحلم بالإبقاء على السلطة في يدها بكل ما تملك من قوة. فما يغيظ الانقلابيين هو إصرار الشعب المستميت على رفضهم ورفض مشروعهم المجرب والخرب.

وربما، لهذا اليأس والحرج والعزلة التي أصبح عليها الانقلابيون، أرادوا استفزاز الشعب السوداني بإطلاق سراح بعض قادة "حزب المؤتمر الوطني" المحلول، الأسبوع الماضي، وهم: الأمين العام إبراهيم غندور محمد الجزولي وأنس عمر. لكن المشكلة المقيمة في الخطط المفضوحة للانقلابيين هي أنهم يتوهمون القدرة على إنجاح خططهم الفاسدة بطبيعتها. وفي سبيل ذلك، يعيدون ببؤس اكتشاف عجلة الأخطاء. فالانقلابيون يعلمون اليوم أن المجتمع الدولي علَّق المساعدات والمنح والدعم المقدم للسودان من المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك حتى شهر يوليو (تموز) المقبل كمهلة أخيرة لقيام حكومة انتقالية، أو إلغاء الدعم نهائياً من طرف تلك الجهات في حال لم تؤلَّف حكومة مرحلة انتقالية.

رهان العسكر يقوم على ظن خاطئ بإمكانية إيهام المجتمع الدولي من خلال تكوين حكومة (تلافياً لقرار تحويل تعليق الدعم الدولي إلى إلغاء من جانب المجتمع الدولي) تضم عناصر مجموعة ما يُسمى بـ"قوى الحرية والتغيير" (التوافق الوطني) التي دعمت العسكر وكانت سبباً رئيساً في انقلاب 25 أكتوبر، كحركة مني مناوي وحركة جبريل إبراهيم والأحزاب المتحالفة معهما، إلى جانب إعادة تعويم بقايا كانت في الظل من عناصر نظام "حزب المؤتمر الوطني" (بعد إعادة كثيرين منهم إلى مواقع السلطة والقرار منذ الانقلاب في 25 أكتوبر 2021).

ولكي يزيّف الانقلابيون الأمر أكثر إيغالاً في التدليس، حاولوا تجيير مبادرة "الجبهة الثورية" كما لو أنها مبادرة من طرف أعضاء في المجلس السيادي، إذ جاء خبر على صفحة مجلس السيادة الانتقالي على "فيسبوك" بهذه الصيغة: "عضوا السيادي الهادي إدريس والطاهر حجر يعقدان اجتماعاً مع المجلس المركزي للحرية والتغيير"، وذلك لكي ينصرف الإيحاء بأن ما تم من اجتماع بين الهادي إدريس والطاهر حجر مع المجلس المركزي لـ"قوى الحرية والتغيير" هو مبادرة من طرف المجلس السيادي، علماً أننا ندرك أن مبادرة "الجبهة الثورية" لن تجد آذاناً صاغية من طرف القوى الثورية وأطراف الحراك السياسي للمجتمع السوداني.

لقد اتضح للشعب السوداني اليوم بلا أدنى شك أن ملامح المواجهة والنضال ضد انقلابيي المكون العسكري هي ملامح حَدِّيّة، (بعد إجهاض اتفاق عبدالله حمدوك الذي أدى إلى استقالته)، وبعد أن أخرج بعض قادة النظام المجرم من السجن، الأسبوع الماضي. ولهذا، إذا ما سمع الناس، بعد ذلك، أنه تم إطلاق الجنرال عمر البشير ورفاقه من السجن، فلن يكون ذلك محل استغراب.

المستغرب اليوم في الشارع السوداني وما بات في حكم الإجماع هو أن يتوهم البعض أي إمكانية لقبول قوى الثورة أي صيغة من صيغ الشراكة مع الانقلابيين الذين بات واضحاً أنهم يبحثون عن مخرج من ورطتهم، سواء من خلال ما ظل يحوم حولهم من شبهات جرائم فض الاعتصام عام 2019، أو من خلال مخططاتهم لعمليات شد الأطراف في الأعوام الثلاثة الماضية من شراكتهم مع "قوى الحرية والتغيير" في السلطة، إلى جانب تحريض كيانات عنصرية وقبائلية كالمجلس الأعلى لنظارات البجا في شرق السودان للقيام بأعمال فوضوية مثل غلق الطريق القومي وإغلاق المرافق القومية كالموانئ والمطارات. كل ذلك، بات واضحاً للشعب السوداني. ومن ثم، فإن إعطاء أي فرصة أخرى بمدّ قوى الثورة السودانية يدها للانقلابيين لتكوين حكومة مدنية وبقية هياكل السلطة، سيعني كسب العسكر سنوات أخرى من المراوغة، ومن ثم استمرار تدوير فائض الخراب الذي عشعش 30 عاماً، مرة أخرى على حياة السودانيين.

إن فائض الخراب بوصفه النتاج الحصري لتجربة الإسلام السياسي في الحكم هو اليوم ما يمثله تراكم الفساد الذي ضرب المجال العام في السودان على نحو مميت. ولهذا، فإن الخراب الذي نشهده في المجالين السياسي والعسكري هو تعقيد متعدد الوجهة والمكان، وسيظل يفاجئ كثيرين في نواحٍ أخرى من هياكل حياة عامة أفسدها نظام الإخوان المسلمين، لا سيما في الجوانب الاجتماعية كتسييس نظام القبائل الذي لا يزال يولّد الفتن في شرق السودان ويعكس مزيجاً مشوهاً لممارسة السياسة عبر منظور القبيلة، وما يفيض عن هذه المقاربة العدمية للسياسة من عنصرية وخطاب كراهية ومفاهيم خاطئة لوعي المواطنة وغير ذلك من ألوان الخراب.

وفيما يدرك الشعب السوداني أنه لا يمكن أن يسمح بعودة نظام الإخوان المسلمين وفساده ومصائبه القبائلية التي جلبها إلى المجال العام لأكثر من 30 سنة، ستظل لجان المقاومة هي علامة صحوة هذا الشعب. وستظل استجابة هذا الشعب وقواه الحية لجداول توقيت تظاهرات لجان المقاومة هي خريطة الطريق في الأيام المقبلة وصولاً إلى إسقاط الانقلابيين.

اليوم، تواجه قوى الثورة السودانية الحية ثلاثة مصادر خطيرة من عناصر الثورة المضادة، هي: المكون العسكري الانقلابي، وبقايا نظام الإخوان المسلمين، والكيانات السياسوية القبلية. وسيكون تحالف قوى الثورة المضادة ضد مصلحة الشعب السوداني تحالفاً مصيرياً على نحو لا فكاك منه، ما يعني أن أي خطوة في منتصف الطريق مع هذه المنظومات الثلاث للثورة المضادة، بمثابة إجهاض للثورة السودانية.

وتواجه قوى الثورة السودانية اليوم تحدياً ذاتياً داخلياً يفرض عليها أولوية مطلقة لتكوين جبهة متحدة، أو كيان موحد يتولى قيادة العمل النضالي. وإذ بدا اليوم أن ثمة إجماعاً من الشعب السوداني على أن تتولى لجان المقاومة خريطة النضال الثوري، فإن غياب جسم تتفق عليه قوى الثورة يمثل نقطة ضعف لخط المقاومة. كما أن الوضع السياسي اليوم بعد خلط الأوراق بالعملية الانقلابية في 25 أكتوبر يفرض واقعاً جديداً ومعقداً ينبغي أن تتهيأ القوى السياسية فيه لتجريب معادلات وخيارات ثورية جديدة، لأن الأوضاع تتجه (بعد إطلاق سراح قادة كبار من نظام البشير) إلى إصرار واضح للمواجهة من طرف الانقلابيين والقوى اليمينية المتطرفة المتحالفة معهم.

ذلك أن استراتيجية البحث عن النجاة مهما كلف الثمن هي اليوم تهيمن على المكون الانقلابي وحلفائه من عناصر النظام القديم، وهي استراتيجية لا يمكن الثقة بها، لأنه حين يدعو البعض من عناصر النظام القديم إلى صفحة جديدة (كما دعا إلى ذلك إبراهيم غندور الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني المحلول)، نكون أمام دعوة إلى تجريب المجرب في زمن لا يسمح بتكراره، بل إن مثل هذه الدعوات، والدعوات الأخرى إلى الحوار التي يطلقها بين حين وآخر كل من البرهان وحميدتي، هي دعوات غير مجدية. فلو كان كل من حميدتي والبرهان يؤمنان بالحوار، لماذا انقلبا على السلطة المدنية الانتقالية في 25 أكتوبر؟ ولماذا يشكو البرهان من عزوف قوى الثورة الحية والقوى السياسية عن الحوار معه؟ وهو الذي حين أعلن انقلابه المشؤوم وصفهم بأنهم أحزاب صغيرة اختطفت السلطة؟ ثم لماذا لا يكوِّن البرهان الحكومة المرتقبة من طرف حاضنته السياسية التي حرّضته على الانقلاب؟ كل هذه الأسئلة التي لا يقدر أن يجيب عنها كل من البرهان وحميدتي، تضعنا أمام حقيقة الوضع القاسي الذي يتجه إليه السودان في ظل سلطة الانقلابيين. الأمر الذي سيعني أن هناك استحقاقاً مهماً جداً لتوحّد قوى الثورة في كيان يكون بمثابة جبهة عريضة، لأن في هذا الوصفة العلاجية الناجعة للواقع. وهو ما يحتاج إليه المجتمع الدولي ليحدد مرجعية واحدة لقوى الثورة يمكن التعاون معها لمحاصرة الانقلاب.

إن ما تواجهه قوى الثورة السودانية الحية يحتاج إلى كلمة سر تتمثل في الوحدة والتخطيط السياسي على نحو استراتيجي، يقرأ مخاطر الخريطة السياسية للسودان.

ولتوضيح طبيعة الفكرة المحددة لكيفية وحدة قوى الثورة بصورة دقيقة جداً في مواجهة هذه القوى الانقلابية اليمينية الخطيرة والمهددة بالفوضى وانفراط خريطة الوطن، سنضرب مثلاً بما جرى في الانتخابات الفرنسية لعام 2002، وهو مثل يبيّن لنا تماماً مغزى الوعي الاستراتيجي الأعلى للقوى السياسية الثورية وقدرتها على رؤية المصير السياسي بوضوح، ومن ثم الاستجابة لتحديات ذلك المصير بطريقة تحدث فرقاً، وفي ضوئها يمكننا إعادة تعريف إذا ما كان العقل السياسي الحزبي السوداني حضارياً أو رعوياً.

ففي الدورة الأولى من الانتخابات الفرنسية لعام 2002، حينما حصد جان ماري لوبن، رئيس الحزب اليميني المتطرف (والد الزعيمة الحالية مارين لوبن) 18 في المئة من نسبة الاقتراع، عرفت القوى والأحزاب السياسية الخطر العظيم المحدق بفرنسا إذا ما فاز هذا الحزب بالانتخابات الرئاسية في الدورة الثانية. لذلك، ألغت كل الأحزاب الفرنسية، اليسارية ويمين الوسط ويسار الوسط والخضر، برامجها الانتخابية واصطفت خلف مرشح الحزب الديغولي (الرئيس الأسبق جاك شيراك)، ما أدى إلى هزيمة ساحقة لليمين المتطرف (الذي لم يكُن يحصد في انتخابات دول أوروبا كلها بعد الحرب العالمية الثانية سوى نسبة 1 – 2 في المئة).

اليوم، حاجة القوى السياسية السودانية وقوى الثورة هي الاستفادة من درس الوحدة الفرنسية هذا، بالتوحد وتأسيس جبهة عريضة في مواجهة الانقلابيين واليمين الديني والقبائلي المتحالف معهم، لأن السودانيين كانوا أصلاً قد جرّبوا حصاد الخراب الذي راكمته تجربة حكم الإخوان المسلمين للسودان على مدى 30 عاماً.