من ضمن الاوصاف التي ألصقها الانسان الى نفسه أنه حيوان اجتماعي، أي أنه مجبول على العيش في تجمعات تتشكل في اطارها علاقات متنوعة تتطور وتتعقد مع تعاقب الزمن. من الطبيعي ان اي تجمع بشري في حاجة الى قيادة، من عائلة الى عشيرة وقبيلة ومن ثم النمط الاعلى من التجمع البشري وهو الدولة، حتى المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، وهذا نهج عرفه الانسان وقبل به منذ أول تجمع بين الانسان والانسان، ولا يمكن لاي تجمع أن يستمر ويؤدي وظيفته الحياتية دون قيادة. كل شكل من تجمع بشري له نمط من القيادة، واكثر الانماط القيادية تعقيدًا وحساسية هو قيادة الدولة. هذا التعقيد، وهو امر طبيعي، يعود الى الفارق العددي الكبير بين الفريق القيادي والقاعدة الشعبية، اما الحساسية بين الطرفين فهو نابع من المسافة الواسعة الفاصلة في العلاقة بين الطرفين، وهذا كذلك حالة طبيعية لاستحالة تقريب المسافة بسبب وظيفي وعددي. هذا التعقيد والحساسية اقتضتا معالجتهما تفاديًا لأي تاثير سلبي، في العلاقة بين الطرفين، ينتج عن تفاقم التعقيد وتعمق الحساسية بين القيادة و القاعدة. العلاج الفعال، نسبيًا، هو وجود وسيط بين الطرفين، وهذا الوسيط منذ بدايات تشكل الدولة هو سلطة ناعمة كانت في بداية مسيرة الدولة تتمثل في مؤسسة كهنوتية تعي جيدًا قوة القيادة ومكانتها ومهماتها، وقوة القاعدة ودورها والمطلوب منها؛ هكذا تكون السلطة الناعمة قد ادت وظيفتها المحورية بين الطرفين، باكتساب رضى القيادة واحترام القاعدة. المؤسسة الكهنوتية، لكي تعيش، كانت تمد يداً الى القيادة وتمد أصابعها إلى القاعدة، وتستلم الهبات من القيادة والعطايا شبه الملزمة من القاعدة. إن اهمية السلطة الناعمة أشار اليها نيرون امبراطور روما، عندما قال بصريح العبارة بأن عدد العبيد في الامبراطورية اكثر بكثير من السلطة الحاكمة، وبأن العبيد إذا وعوا لهذه الحقيقة، التي تكشف عن مدى قوتهم، فانهم سوف يحدثون فوضى في الامبراطورية، والذي قصده الإمبراطور نيرون هو ضرورة توجيه هذا الوعي بحيث لا يرتد على سلطة الدولة… العلاج او الحل هو ايجاد علاقة تربط القوتين بسلطة ناعمة، مهمتها الاساسية تلطيف النفوس وتوجيه العقول بما يعود بالراحة والطمانينة لقيادة الدولة والاستقرار في المجتمع.

إذا راجعنا كتب التاريخ فانها تذكر لنا هذه العلاقة بين الاطراف الثلاث، القيادة والمؤسسة الكهنوتية والقاعدة، بدءًا من الدولة السومرية والفرعونية وصولًا الى هذا العصر. المؤسسة الكهنوتية، حالها حال طرفي الدولة، تتغير وتتطور وتأخذ اشكالًا جديدة على مدار الزمن وطبيعة العصر. مع تعدد الدول والامبراطوريات، تعددت المؤسسات الكهنوتية، واصبحت هذه السلطات الناعمة طرفاً في النزاعات بين الدول والامبراطوريات، اضافة الى ان الامبراطوريات في امتدادها الجغرافي كانت تفرض طبيعة سلطتها الناعمة على الشعوب المغلوبة، فمثلاً كانت الامبراطورية الرومانية تفرض على شعوب الشرق، وخاصة في الشام، الانصياع الى طقوسها الوثنية وهي الشكل البارز لعقيدة مؤسستها الكهنوتية، وكذلك الدولة الساسانية كانت تفرض على الشعب الارمني طقوسها الزرادشتية. واضح ان توحد السلطة الناعمة ينعكس إيجابًا على تماسك الدولة او الامبراطورية، ومن هذا المنظور كانت الدولة السائدة او الامبراطورية المهيمنة ترى اهمية سيادة سلطتها الناعمة… المعادلة بسيطة، رغم قوتها، وهي دولة واحدة وشعب واحد وعقيدة واحدة، وكذلك امبراطورية واحدة وشعوب عديدة وعقيدة واحدة. ضمان الاستقرار للدولة وللامبراطورية هو في وحدة السلطة الناعمة، أي عقيدة الدولة او الامبراطورية. هذه المعادلة هي أس السياسة منذ بدء الدولة الى هذا اليوم، ولا حاجة للخوض في اشكال الطموحات وتضارب المصالح، لأنها كامنة في جوهر الحاجة الى سلطة ناعمة.

إن الذي كان يتوجس منه الإمبراطور الروماني نيرون (27 ق.م. - 68 م) قد حصل بعده بالف وستمائة عام، في عصر التنوير الذي افرز الثورات الشعبية في اوروبا وعلى راسها الثورة الإنجليزية 1688م، وبعدها الثورة الفرنسية 1789م. التنوير، الذي أنبلج في القرن السادس عشر، غير وجهة الشعب الاوروبي من درب اللاوعي بالذات الى درب الوعي بقوة الذات، وكان هذا التحول النوعي في المسار هو المحفز لتلك الثورات التي كانت فاتحة عصر الجماهير. عصر جديد لم تعهده البشرية، لا القيادات الحاكمة ولا القواعد المحكومة، وصاحَبَ هذا التحول الكبير تحول جوهري في نوع او طبيعة السلطة الناعمة التي لعبت لالوف السنين دور الوسيط بين القيادات والقواعد في الدول والامبراطوريات. التحول الكبير فصل المؤسسة الكهنوتية عن الدولة وانتهاء دورها، أي فصل الدين عن السياسة، ولكن الحاجة الى سلطة ناعمة وسيطة لم تنتفِ، خاصة وان العلاقة بين القيادات والقواعد تطورت الى مرحلة الدستورية التي تقر بان الشعب هو صاحب السلطة، وان القيادات يجب ان تنبعث من اختيار الشعوب. قيادة حاكمة منتخبة وجماهير شعبية لها الكلمة والسلطة في اختيار القيادة، تحت نظام سياسي يعرف بالديمقراطية، اي سلطة الشعب، في حاجة الى اعتماد وسيط يقوم، مجازيًا، بدور السلطة الناعمة ولكن ليس من نمط الكهنوتية، فتولد ما هو معروف اليوم بالسلطة الرابعة والتي تطورت الى الاعلام، الرسمي والشعبي، السائد اليوم.

لا شك ان هناك فرقا نوعيا بين الكهنوتية والاعلام؛ الكهنوتية كانت تلطف النفوس وتوجه العقول، لان المستهدف وهو الجماهير كان في حالة غياب عن وعي الذات ومدى قوتها، وكانت المهمة يسيرة نسبيًا، والعلاقة بين الاطراف كانت شبه منسجمة، ولكن مع جماهير شعبية، وحسب تعبير غوستاف لوبان في كتابه النوعي (سيكولوجية الجماهير) الواضح والصريح بأنه «منذ قرن فقط، كانت السياسة التقليدية للدول والمنافسات الجارية بين الحكام هي التي تشكل العوامل الاساسية لتحريك الاحداث. ولم يكن لرأي الجماهير في الغالب الأهم أي قيمة. وأما اليوم فنلاحظ أن التقاليد السياسية والتوجهات الفردية للملوك والحكام والمنافسات الكامنة بينهم لا تؤثر على مسار الأحداث إلا قليلًا. وقد اصبح صوت الجماهير راجحًا وغالبًا. فهو الذي يملي على الملوك تصرفاتهم. ولم تعد مقادير الامم تحسم في مجالس الحكام، وانما في روح الجماهير»…

نعم، عصر جماهيري جديد اقتضى سلطة ناعمة على غير نمط المؤسسة الكهنوتية، فكان ولادة السلطة الرابعة، وهو الاعلام. مع المؤسسة الكهنوتية كانت العلاقة بين الاطراف توجيهية وتلقينية وكانت بمثابة الوصية على القاعدة الجماهيرية، بينما المؤسسة الاعلامية علاقتها جدلية ومعقدة، نتيجة لاستقلاليتها عن القيادة السياسية وعدم رضوخ القاعدة الجماهيرية لقيود اي شكل من اشكال الوصاية… اليوم صار الاعلام ساحة صراع، لا توجيه ولا توصية، بين الاطراف كلها، وفي اطار الطرف الواحد ذاته، أي ان السلطة الناعمة اليوم لم تعد سلطة بالتقليد الكهنوتي ولا بالمراد الناعم، بل ساحة تجاذب وتحارب… هذا الاعلام، الذي تتحرك على ساحاته كل الدول والشعوب، عمره لا يتعدى مائة عام مقارنة بألوف السنين من عمر المؤسسة الكهنوتية. هذا الاعلام، الذي ورث دور الكهنوتية، مازال في طور الطفولة، ولهذا السبب فهو عبثي الطبع،،، كم بقى من طفولتها قبل سن الرشد؟ لا يمكن أبدًا التكهن بمعادلة التحول العمري لوارث الكهنوتية، ومن عادة الوريث في البداية التصرف بعبثية مع الموروث، والمأمول بحسن الرجاء أن مرحلة الطفولة تنتقل الى مرحلة الرشد والجنس البشري مازال على قيد الوجود!!!