الانتخابات، الرئاسية والبرلمانية، في أوروبا عامة وفرنسا خاصة تحتدم على ساحة الحرية بين رايتين وهما اليمين بأطيافه، واليسار بأطيافه. ساحة الحرية في أوروبا، وهي الساحة الأكثر مصداقية بين جميع ساحات السياسة في العالم، تنشط فيها حرية الخيار والاختيار في معارك انتخابية لانتخاب رموز للسلطة التشريعية، ورمز لرئاسة السلطة التنفيذية. معلوم ان السلطة التشريعية هي المؤسسة التي يتم فيها صياغة القوانين التي تسير الحياة في الدولة، وأن السلطة التنفيذية هي مؤسسة تنفذ تلك القوانين، وصياغة القانون وتنفيذه يتم تحت سقف دستور متفق عليه، وهو بمثابة العقد الاجتماعي الذي يشكل شبكة العلاقات التي تربط الإنسان بالإنسان في البنيان الهرمي على ساحة الدولة. مع تداعيات الثورة الفرنسية واحتدام الصراع بين اتباع الملك ومعارضي الملك في الجمعية الوطنية برز على سطح الصراع اتجاهين، تحت مسمى اليمين واليسار، مصطلحان ظهرا خلال الثورة الفرنسية عام 1789 عندما انقسم اعضاء الجمعية الوطنية الى الجالسين على يمين الرئيس وهم انصار الملك، والآخرون الجالسين على يسار الرئيس وهم انصار الثورة.. ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم والإنسان الأوروبي على ساحة الحرية ومعاركها السياسية منقسم على ذاته بين يمين متعدد الاطياف وفي خنادق ايدولوجية متفاوتة الألوان، ويسار بمختلف أطيافه وألوانه، وكلاهما يمتدان بين نهج معتدل وآخر متطرف. لكن الفارق بين ما قبل الثورة وما بعد الثورة، إن الصراع قبل الثورة كان مكنونًا داخل النفوس، وبعد الثورة انكشف الغطاء عن النفوس وتنفس المكنون بعد ان تفتحت عيونه على نور الحرية. امتد مُنْتَجَى الثورة الفرنسية، وهما «اليمين» و«اليسار»، إلى بقية شعوب العالم، فصارت سياسات الدول واتجاهات الأحزاب والأفراد، المنخرطين في السياسة، تصنف أو تشخص بصفتي «اليمين» أو «اليسار». مع ثورة الاتصالات وانتشار وسائط التواصل غير المقيدة وغير المحدودة زمنيًا ومكانيًا، تحول العالم إلى ما يشبه القرية الصغيرة التي يعرف فيها كل السكان بعضهم بعضًا، ويمكنهم التواصل فيما بينهم دون لقاء ولا حاجة إلى علاقة سابقة، فالكل بات مجازيًا يعرف الكل، والكل صار واقعيًا بامكانه التواصل مع الكل. هذه القرية العالمية أتاحت فرصة نادرة للافكار عامة والاتجاهات السياسية خاصة للتزاوج فيما بينها بحيث اضحى التمييز بين اليمين واليسار يشوبه شيء من عدم الوضوح، إلا فيما يخص التطرف المفرط من الجانبين، وهما قلة غير ذات فاعلية، والمجتمع العالمي لا يعطيهما تلك الاهمية حتى يكون لهما حضور فاعل ومؤثر على ساحة الحرية، وكذلك على الساحات التي مازالت تسعى لتحرير أرضيتها. أصبح اليمين يمتد على مدى بين يمين ووسط وجار لليسار، وكذلك اليسار أضحى يمتد من يسار ووسط وقريب من اليمين. هذا التمدد خلق منطقة جامعة، أو مزيجًا، من اليمين واليسار، وصارت هذه المنطقة تتغذى يومًا بعد يوم على مخرجات فكرية تنظر إلى الجانبين بمنظار تاريخي، وتضع صراعاتها الايدولوجية وامتداداتها، بين مرونة وتشدد، على ساحة البحث الفكري والتشخيص التاريخي. جميع الأفكار والعقائد والاتجاهات تنطلق من نقطة زمنية، وتكون لحظة انطلاقتها هي بداية تاريخها، ومع تعاقب الزمن تصبح تحت وصاية التاريخ، من بداية نشطة إلى مراحل ما قبل انتهاء صلاحيتها الوظيفية، وتطرأ عليها تغييرات تحتمها مستجدات الواقع، إلى أن تقرر تلك المستجدات نهايتها، وتتولد منها بدايات جديدة. مسار التغيير في فرنسا اصاب اليمين واليسار.. الجبهة الوطنية، الممثلة لاقصى اليمين أصابها تحول نوعي بعد انقلاب ابنة الزعيم، ماري لوبان، على أبيها واحتلال موقعه القيادي بعد أن رأت أن المستجدات على أرض الواقع تقضي بضرورة التغيير، وضرورة الخروج من دائرة ضيقة تفرض التطرف المفرط إلى ساحة أوسع من الواقعية والتفاعل مع المستجدات دون حساسية عقائدية. ماري لوبان، رغم انها تمثل اليمين، إلا أن انقلابها في داخل الحزب يُعد خطوة في اتجاه اليسار، وهذه الخطوة لا تعني الخروج من دائرة اليمين، بل تلطيف اليمين. بموازاة، هذه الخطوة رفع ايمانويل ماكرون شعار «ماضون قدمًا» حركة سياسية «لا يمينية ولا يسارية» على غرار «لا شرقية ولا غربية»، ولكن المنظور الفرنسي من نتاج واقع متجدد.

المتغيرات على الساحة السياسية، وبالنتيجة الاجتماعية، في فرنسا بمبادرات بارزة من ماكرون وماري لوبان انعكست بشكل يتماهى مع نظرة الزعيمين في المعركة الانتخابية الاخيرة في فرنسا، حيث ان المنافسة على سدة الرئاسة انحصرت بينهما، والنتيجة الانتخابية بينت بوضوح ان فارق الشعبية بينهما هامشي. «لا يمينية ولا يسارية» ماكرون، وانقلاب ماري لوبان على نهج التطرف المفرط وإزاحة أبيها عن قيادة الحزب، اضافة الى قبول غالبية الشعب الفرنسي لهما، والذي اثبتته انتخابات 2017 وانتخابات 2022، تشير إلى إن فرنسا التي نبت في تربتها السياسية والثقافية مصطلحا «اليمين» و«اليسار»، وبالضبط الحسابي، وبعد قرنين وثلث قرن، هل حان موعد اقتلاعهما من جذور أذبلتها تربة الواقع والوقائع، وأن الدور الوظيفي لهما قد حان موعد تقاعده، بعد ان فقد الشعب طعم مذاقهما على مائدة السياسة؟!!!

كل المنتجات لها عمر تحدده صلاحية الزمن، من أحياء ونبات وأفكار ومفاهيم، ونحن اليوم على مشارف نهاية لمفهومين ولدا معًا، ويبدو أن صلاحيتهما قد شارفت على الانتهاء بعد عمر تخطى المائتين عامًا.. لقد أنهك الزمن ثنائي «يمين-يسار»، وهذا أمر طبيعي ومتوقع. فهل من بديل؟ لا ندري! وهل البديل ضروري؟ الواقع المتجدد هو التربة التي تنبت الضروريات.