المتغيرات الحديثة في العالم بدأت عملياً منذ تفكك الاتحاد السوفيتي العام 1991 وعزز التسارع بالمتغيرات الأحداث والأزمات التي تلته بدايةً من أحداث سبتمبر في أميركا, مروراً بالأزمة المالية العالمية’ وتفشي فيروس كورونا قبل عامين, وتوجت بالحرب الروسية على أوكرانيا التي دخلت شهرها الثالث, فعالم اليوم لم تعد موازين القوى فيه كما كانت سابقاً. ودخل على المسرح الدولي لاعبون جدد أبرزهم الصين التي تحتل المرتبة الثانية من حيث الناتج الإجمالي عالمياً, كما أن الدول التي كانت تمتلك مكانة وتأثيراً دولياً وتصنف بالمتقدمة لم تعد تحتكم على هذه القوة والتأثير بنفس المستوى السابق, وتحديداً الدول الأوروبية الكبرى والتي استشعرت ذلك وانتقلت لمرحلة جديدة من الترابط عندما أطلقت العملة الموحدة اليورو العام 1999 والتي تضم 19 دولة من بين 28 يشكلون الاتحاد الأوروبي.

فيما تخوض روسيا والدول التي انفصلت عن المنظومة السوفيتية مراحل من التحول الاقتصادي والسياسي واسعة النطاق لكي تواكب التطورات الدولية, ويضاف لذلك التكلات التي تضم دولاً عديدة من مختلف قارات العالم مع بروز قوي للاقتصادات الناشئة, لكن ما يشهده العالم من تطورات مؤخراً يمثل تغييراً جذرياً سيكون له تبعات واسعة, فالعقوبات التي فرضت على روسيا بعد شنها حرباً على أوكرانيا لن تكون آثارها مؤقتة ومحصورة بالتضخم الذي ارتفع كثيراً منذ بداية الحرب حيث إن هذه العقوبات كانت بمثابة صب الزيت على النار, لأن التضخم مرتفع جداً بسبب نقص سلاسل الإمداد الذي تسببت فيه إقفالات جائحةكورونا للحد من انتشاره, فالارتفاع الحالي لأسعار السلع الغذائية الأساسية يشكل عاملاً مقلقاً جداً للاستقرار الدولي, بسبب المخاوف من أزمة غذائية ستؤثر كثيراً بأحوال واستقرار الدول الفقيرة, إضافة لاحتمال تعثرها ليس فقط في توفير غذاء شعوبها بل في سداد قروضها مما ينذر بأزمات معقدة مستقبلاً إذا لم تتوقف الحرب ورفعت العقوبات لتعود صادرات القمح والحبوب من أكبر دولتين مصدرتين لهما روسيا وأوكرانيا لوضعها السابق.

إلا أن أكثر ما يهدد الاقتصاد العالمي اليوم هو انتقال المواجهة الأميريكية مع الصين لمرحلة جديدة كلياً, فإذا كان أغلب رؤوساء أميركا السابقين اتخذوا خطوات مختلفة ضد الصين لكن ذلك لم يصل لما هو عليه الخلاف بينهما حالياً, فبداية المواجهة الكبرى بدأها الرئيس السابق ترمب بفرض رسوم على واردات الصين لأميركا ومن ثم وضع شروطه لبناء اتفاقية جديدة بينهما, أما مرحلة الرئيس الحالي بايدن فتعد الخطوات التي اتخذها أكثر تطوراً وخطورةً بهذه المواجهة لأنها بدأت تأخذ منحىً غيّر الاقتصاد والحرب التجارية.

فالرئيس بايدن بدأ مواجهة الصين قبل حوالي عام عندما أطلق مبادرة إعادة بناء عالم أفضل في اجتماع لمجموعة السبع الكبار وذلك لتكون منافسة وبديلة لمبادرة الحزام والطريق الصينية والتي حققت نجاحاً واسعاً, إذ انضم لها ما يقارب الـ 70 دولة, ومن ثم قامت بعدها أميركا بتأسيس تحالف أوكوس الأمني الذي يضم المملكة المتحدة وأستراليا وتتمركز عملياته في المحيط الهندي والهادي, لكن وبعد الحرب الروسية على أوكرانيا بدأ الغرب بقيادة أميركا الطلب من الصين تقليل تعاملاتها التجارية مع روسيا, وكأنهم يريدون ليس عزل روسيا عن أكبر المناطق الاقتصادية بالعالم فقط بل حتى فك الشراكة الصينية الروسية وما لذلك من تبعات على الاقتصاد العالمي سواء بارتفاع تكاليف الطاقة أو السلع الغذائية والمعادن إذا ما توقف تصدير روسيا من هذه السلع التي تعد هي من أكبر منتجيها لثاني أكبر اقتصاد عالمي الصين, حيث يحاولون وضع بكين تحت الاختبار في تعاونها وعلاقاتها الدولية لكن الجولة الحالية للرئيس بايدن لشرق آسيا تعد هي أهم مراحل مواجهة الصين, حيث أعلن من اليابان عن تأسيس شراكة جديدة تضم 13 دولة في آسيا والمحيط الهادئ لن تكون الصين من بينها وتقوم على التكامل في الاقتصاد الرقمي والبنية التحتية والطاقة المتجددة ومكافحة الفساد في محاولة مباشرة لتقليل نفوذ الصين التجاري في منطقة اقتصادية ضخمة وسوق كبيرة لها إضافة لإطلاق تهديدات واضحة للصين إذا ما حاولت غزو تايوان وتأكيد تعهد بلاده بحمايتها, فهذا التصريح قد يكون مجرد بالون اختبار لنوايا الصين في تعاملها مع تايوان وهو ما يشكل دخول منطقة شرق آسيا واقعاً جديداً أكثر سخونة, بالمقابل رفضت الصين هذه التصريحات مؤكدة بأنها لن تتهاون في أمور تتعلق بسيادة الصين ووحدة أراضيها.

قواعد اللعبة الدولية تغيرت مع اللاعبين الجدد وتوجهاتهم وعقائدهم الفكرية التي تحرك اقتصاداتهم, وتبني مستقبلهم, وفوارق القوة بدأت تتقلص رغم استمرار وجود فائض منها لدي أميركا, لكن عند النظر لأكبر ثلاث قوى من حيث المساحة؛ وعدد السكان؛ والثروات؛ والإمكانيات؛ فإن أميركا لديها تحدياتها الداخلية اقتصادياً بالإضافة لديونها السيادية الضخمة. أما روسيا فهي رغم إمكانياتها بثرواتها الكبيرة بالموارد الطبيعية لكنها تواجه حالياً مرحلة حاسمة بتاريخها من كافة النواحي خصوصاً الاقتصادية إلا أن الصين التي تصعد بقوة وتمتلك مقومات وممكنات واسعة لم ترهق نفسها بأي صراعات تستنزف ثرواتها, وجل ديونها تم توجيهها للتنمية وتتقدم سريعاً لتتبوأ المركز الأول بالناتج الإجمالي العالمي, وتعزز حماية اقتصادها بوسائل وسياسات عديدة تبدو هي الأكثر قدرة على تحقيق أهدافها, فهي تنظر لما أعلنه الرئيس بايدن عن الشراكة الجديدة بأن مصيره الفشل وقد يكون ذلك الاعتقاد منطقياً عند النظر لدور الصين في سلاسل الإمداد, وحجم صادراتها, والتحكم بتكاليف منافسة لمنتجاتها, بل وفي حجم ديونها لأميركا بمئات المليارات, إضافة لاعتماد واسع من الشركات الأمريكية على مدخلات إنتاج تأتي من الصين نظراً لانخفاض تكلفتها أي بإمكانها الحد من التصعيد ضدها بوسائل عديدة, فهل ستعقد هذه المواجهة المباشرة من أميركا للصين المشهد الدولي أم إنها ستؤدي لحل مرضٍ للطرفين؟.