التقدم كما تحدث عنه د. محمد كمال مصطفى في كتابه «ثقافة التقدم - المشكلة والحل» هو تحقيق السبق والتفوق، وهو يحتاج إلى رؤية، والرؤية هي القدرة على التميز بين النجاح والفشل، والتخلف هو الفشل، والنجاح هو التقدم الذي يحتاج إلى إدارة فاعلة تحققه لأن الإدارة هي المسؤولية عن تحقيق الأهداف بأعلى قدر من الإشباع، وهي أعلى درجات الابتكار الاجتماعي الذي يتحقق التقدم من خلاله. والثقافة باعتبارها رؤية الإنسان للعالم، وهي نوع من الطرق والأساليب التى يتبعها لكي يكسب حياته وآماله وتطلعاته معنى، وأيضا باعتبارها تمثل إنسانية الإنسان وصراعه من اجل تجاوز الواقع الإنساني إلى واقع أفضل، هذا الواقع الأفضل السبيل إليه هو التقدم.. ومن هنا تكمن اهمية الثقافة وعلاقتها بالتقدم.. في أنها تعني صراع الإنسان من أجل تجاوز الواقع نحو واقع أفضل. ثقافة التقدم، في رأيه، هي حالة من النضج المعرفي يستبعد فيها العقل اللامعقول، ويعيد صياغة هذا الواقع في صورة يقبلها العقل ولا يبتعد في نفس الوقت عن معطيات المتاح والممكن، بل ربما يخضع المستحيل لقدرات وطاقات العقل والإبداع والابتكار والبحث، لأن التقدم يحتاج إلى إرادة التغيير او بالمعنى الأدق يحتاج إلى قوة دافعة، فإن الثقافة التي تلازمه والتي تحيط به، هي ثقافة التقدم التي تقوم على إرادة الانتصار على معوقات الحياة باستخدام العقل كملكة للتاويل والتفسير القائم على العلم.. كسبيل لتجاوز الواقع بإحداث الواقع الأفضل الذي نسعى إليه وهو ما يعني التقدم.. الذي لا يمكن أن نحققه ونصل إليه، إلا إذا تمثلناه كصورة عقلية تستند إلى كل ما أنجزه العقل الإنساني الجمعي متمثلاً في التقدم العلمي والتكنولوجي. إرادة الانتصار على معوقات الحياة باستخدام العقل ثقافة.. يقابلها الاستسلام للأمر الواقع وقبوله ثقافة، الأولى هي جزء من ثقافة التقدم، والثانية هي ثقافة أيضا تعوق التقدم.. ثقافة التقدم هي القوة الدافعة للتقدم.. هي الحل لتجاوز الواقع الحالي المعاش بكل مشاكله وسلبياته، وثقافة الاستسلام والاستسهال والتوكل التي تعوق التقدم تبحث عن حلول المشاكل في الماضي.. فلا أعمال للعقل بالتفكير في تحليل وتفكيك المشاكل، ولكن بحث في الماضي عن حلول في مشاكل مشابهة سابقة.. لكن في ثقافة التقدم لا تستمد المعايير والمقاييس من الماضي.. ولكن تستمد من افضل ما تحقق في الحاضر الذي خضع للتحليل التشخيص والتوصيف الدقيق.. ففي ثقافة التقدم يكون هناك إيمان عميق بأنه لاثبات لحركة الأشياء والكائنات فهي في حركة دائمة وفي تغيير دائم، وما كان في الماضي هو خلاف ما هو في الواقع.
فثقافة التقدم تؤمن أن التغيير لا يتوقف لكنه قد يتراجع للخلف مقارنة بمعايير الزمن الحالي، وأن التراجع هو التخلف أو التأخر عمن يسايرون متغيرات الحاضر.. في ثقافة التقدم لا يمكن أن يحدث التراجع لأن من ينظرون إلى القادم لابد وأن تكون نظرتهم إليه على أنه سيكون أعلى درجة بل درجات من الماضي، وأن تكون مقاييس هذا العلو مستمدة من أفضل المعاصرين.. لأن المعاصرة تعني التزامن مع متغيرات العصر أو الزمن الحالي.. ففي ثقافة التقدم أنت تعيش في إطار آخر ما أنجزته البشرية تتفاعل معها وتضيف إليها.. هذا هو جوهر ثقافة التقدم.. وإما وإن تعيش في معطيات ازمان مضت فهذه هي ثقافة التخلف، وهذه هي مشكلة التقدم.. فثقافة التقدم هي الحل لإحداث التقدم لأنها القوة الدافعة له.. وثقافة التخلف هي عكس ثقافة التقدم لأنها تحجب وتمنع القوة الدافعة لحدوث التقدم. لذلك، كما يقول المؤلف، كان عنوان هذا الكتاب، هو ثقافة التقدم هي المشكلة والحل.. هي المشكلة عندما يوجد نقيضها وعكسها وهي ثقافة التخلف، والحل عندما توجد ثقافة التقدم أو القوة الدافعة للتقدم التي هي إرادة الانتصار على كل معوقات التقدم للانطلاق نحو السبق والتفوق والتميز والريادة. في ثقافة التقدم أن من صنعوا مشكلة التخلف والتراجع ليس لديهم تصور فاعل للحل، ولا يمكن أن يصنعوا التقدم لأنهم لا يملكون ثقافته، بل يملكون ثقافة معوقة له، لأن التقدم يحتاج إلى تغيير ثقافي إلى جانب تغيير كل الكوادر التي عجزت عن أحداثه بكوادر جديدة تمتلك طرق وأساليب وأدوات ورؤى مستمدة من المعاصرة، وبعيدة كل البعد عن أي تصورات أو رؤى تستمد من الماضي والأهم أن تؤمن بمحاور ومكونات وإبعاد ثقافة التقدم.. إذا كنا جادين في أحداث التقدم.
إن المعنى الحقيقي للتقدم هو أن نختار مسارًا مختلفًا عما قبله، لأنه قائم على إرادة تتمثل في رؤية واضحة لما يجب أن يكون، وعلى عقل يتدبر كيف تتم هذه الرؤية.. ولن يكون هذا إلا إذا تحررت الإرادة في اختيار ما تراه محقًا للتقدم، وإلا إذا تحرر العقل في اختيار مختلف الفروض التي يستدل منها على نتائج تحقق الرؤية التي اختارتها تلك الإرادة الحرة.. هذه هي ثقافة التقدم التي تمثل قوته الدافعة، لكن هذه الثقافة ليست مجرد كلمة أو مصطلح له أكثر من ألف تعريف، أو العديد من المداخل والمفاهيم.. فالموضوع يحتاج إلى التناول بقدر أكبر من الدقة والتحديد.. لذلك فقد تم تقسيم هذا الكتاب إلى أربعة فصول تناول الفصل الأول فيها: معنى التقدم وماهيته والعوامل الدافعة له، وتلك العوامل المعوقة أمامه، والدافع إليه وأهم أبعاده، وأبرز التجارب التي ارتبطت به، وعلاقة التقدم بالتنمية، والتنمية المستدامة، والتنمية البشرية، والأنماط الثقافية الأكثر ارتباطًا به.. وكيف أن الحاجات البشرية هي أهم الدافع إليه.. وكذلك العلاقة بين الحداثة والتقدم.. والمعرفة والتقدم، باعتبارها إنها جوهر وأساس التقدم. أما الفصل الثاني فقد تناول الثقافة من مفهومها العام، ومستوياتها ونوعياتها بين ثقافة المنظمة، وثقافة العمل، وثقافة المهنة، وثقافة الوظيفة، وكيف يتم بناء الثقافة الدافعة في المنظمات، وذلك من منظور أن التقدم يتم من خلال المنظمات ألتي تعمل في مختلف مناشط الحياة، وأن هذه المنظمات يتم تشغيلها من خلال مجموعة من المهن والوظائف التي يكون العمل والأداء هو أساس تشغيلها. لذلك، كان من الضروري أن يتم تناول هذه الجوانب المختلفة من مستويات الثقافة لأنه لا تقدم دونها.
وأما الفصل الثالث فقد تناول ثقافة العمل.. باعتبار العمل هو إعمال العقل بالفكر في احداث ناتج مادي أو فكري أو تحقيق إضافة ما، فهو بهذا المعنى سيحدث الثقدم إذا ما كان جادًا في تحقيق إضافة إيجابية حقيقة تحدث تحولًا نوعيًا، لذلك تناول هذا الفصل معنى العمل، وثقافة التمكين والقيمة الاقتصادية للفرد، وثقافة القيادة، وثقافة المهنية والاحتراف باعتبار أن هذه الجوانب تمثل أهم جوانب ثقافة التقدم.
وأما الفصل الرابع والأخير فقد تناول معوقات ثقافة التقدم باعتبارها تمثل جانب المشكلة في أحداث التقدم.. فتناولت ثقافة الفقر وخطاب العودة للماضي كأهم معوقات التقدم، وضبط مفاهيم المصطلحات الأكثر تأثيرًا في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في حياة الناس، وكذلك العلاقة بين التاريخ والتقدم، وافتقاد ثقافة الديمقراطية وثقافة التنمية، وكذلك ضيق الأفق، وكيف نفهم المحاور الخمسة للثقافة؟ وأخيرا الإجابة عن السؤال المهم، وهو لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ والذي يوضح بجانب الأسباب السبعة التي تناولها في هذا الفصل أهم أسباب حدوث هذا التأخر. ليبقى سؤال أخير، هو لماذا كان عنوان هذا الإصدار ثقافة التقدم المشكلة والحل؟ والإجابة وإن كان قد أشار إليها بإيجاز في مقدمة الكتاب بشكل غير مباشر، فإنه يجيب هنا بشكل مباشر.. وهي أن المشكلة الحالية في العبور نحو التقدم هي افتقاد الثقافة الدافعة، وافتقاد الوعي الناقد، وسيطرة الوعي الساذج.. وإن الحل الوحيد هو إيجاد ثقافة تمثل قوة دافعة للتقدم يكون أساسها العقل الناقد والوعي الكامل. ولهذا كان عنوان الكتاب هو ثقافة التقدم المشكلة والحل.