لم يعد الحديث عن التوقعات بولادة نظام عالمي جديد له أي مساحة في واقع عالم اليوم، فالنظام الجديد بدأ فعلياً والأحداث المفصلية بتاريخ العالم الجارية حالياً ما هي إلا تأكيد لعالم جديد بأقطاب متعددة فالمواجهات بين القوى الكبرى تخطت حدود الحروب التجارية إلى المواجهات العسكرية التي تدور رحى حرب بين روسيا والغرب على أرض أوكرانيا، حيث تقوم أمريكا وحلفاؤها بدعم الجيش الأوكراني بأسلحة دفاعية حديثة بهدف إجبار روسيا على وقف الحرب وهو ما يعني ضمنياً خسارتها لها وانكسارها وتبدد حماية أمنها القومي وهو هدفها المعلن عند قيامها بعمليتها العسكرية ضد أوكرانيا لمنع وصول حلف الناتو لحدودها رداً على رغبة كييف بالانضمام للحلف لكن ما يتجه له العالم قد يذكر بما نتج عن مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية حيث تتجدد المخاوف من توسع المواجهات لتشعل حربا كونية إذا لم يتم التوافق على حلول سياسية لكل القضايا الملتهبة في أوروبا والشرق الأوسط ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي.

فالمواجهة التي تقودها أمريكا ضد روسيا يمكن وضعها في سياق استكمال إضعافها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي قبل ثلاثة عقود والذي باتت روسيا وريثته فلم يكن متوقعاً أن تبقى موسكو حبيسة مرحلة تفكك اتحادها الأم إذ لا بد وأن تعود لتكون قوة عالمية من جديد ولذلك تعد هذه المرحلة التي تمر بها بحربها على أوكرانيا لمنع توسع الناتو لحدودها مع انتشارها الدولي في إفريقيا والشرق الأوسط وعلاقاتها مع أهم الاقتصادات الأعلى نموا بالعالم من خلال تحالف بريكس الذي يضم بالإضافة لها الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا مع توقعات بدعوة دول عديدة له ما يمثل بالنسبة لروسيا محيطاً واسعاً لعلاقاتها الاقتصادية والسياسية على حد سواء ومن شأن ذلك أن يضيف لفضاء هذه التحالفات دولا عديدة من العالم الثالث والاقتصادات الناشئة ستجد فرصة أكبر لتنمية علاقاتها التجارية مع أسواق تعد الأكبر من حيث عدد السكان عالمياً، أما القطب الصيني الصاعد بقوة وسرعة هائلة فهو أصبح قائداً بالتجارة الدولية بخلاف دوره في تحالف مجموعة بريكس إلا أن مبادرة الحزام والطريق التي اطلقتها بكين قبل حوالي عشرة اعوام وتضم قرابة 70 دولة واصبحت اليوم ثاني اكبر اقتصاد عالمي جعل الصين تفرض نفسها كلاعب رئيسي في الاقتصاد العالمي وتملك اكبر شبكة علاقات تجارية بالعالم وامتدت هذه العلاقات لقارة إفريقيا التي تتنافس على اسواقها جميع القوى الكبرى في العالم.

فالاقتصادات الناشئة اصبحت مسؤولة عن 40 بالمائة من الناتج الاجمالي العالمي وتسعى اكبر الدول منها للاستقلال التكنولوجي والمالي عن أمريكا والغرب عموماً كما ان دفاعها عن مصالحها بدا يتخطى حدود الدبلوماسية والعلاقات السياسية إلى تعزيز قدراتها العسكرية وتواجد قواتها الخارجي فمناورات روسيا في المحيط الهادئ ما هي إلا رسالة إلى أن العالم لن يترك أمريكا والغرب بمناطق استراتيجية وسبق ذلك دوريات بحرية مشتركة روسية - صينية للمحيط الهادئ أما الغرب فهو من اصبح يدافع عما تبقى من تفوقه العالمي الذي تراجع لصالح القوى الصاعدة اقتصادياً فما يتم عمله من قبل أمريكا من تحالفات جديدة مثل اوكوس الذي يضم استراليا وبريطانيا بالاضافة لما تدعم به اوكرانيا وما تقوم به من قيادة المتحالفين معها بعزل روسيا وما تمر به من ضغوط داخلية اقتصادياً مع ارتفاع التضخم يمثل منعطفاً مهما بتاريخ أمريكا من حيث بقائها القوة الاولى بالعالم فدولارها تراجع على مستوى حصته بالاحتياطيات الدولية وكذلك بنسبة دوره بالتعاملات التجارية الدولية كثيراً في العقدين الأخيرين وديونها قاربت 30 تريليون دولار كما أن الثقة اهتزت بها في السنوات القليلة السابقة من قبل أهم شركائها بحلف الناتو بينما يمر الاتحاد الأوروبي بأصعب تحديات منذ تأسيسه ما بين احتواء الحرب الروسية - الأوكرانية ومنع توسعها والصعوبات الاقتصادية التي يعيشها مع تضخم حاد فاق 8 بالمائة إضافة لبروز النزعة القومية وزيادة شعبية الأحزاب المنادية ببعض الدول بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي إضافة لخروج بريطانيا منه أحد أهم القوى العظمى بالعالم ومحاولة الأوروبيين تشكيل قوة عسكرية خاصة بهم بعيدا عن الناتو وإعادة بناء علاقاتهم الاقتصادية والسياسية دولياً حتى يتمكنوا من تأسيس قطب دولي منافس لبقية الاقطاب يمتلك سياسية موحدة.

النظام العالمي الجديد ولد ومن أسوأ ملامحه غياب تام للمنظمات الدولية بحل الأزمات القائمة وقيام الغرب بفرض عقوبات وعزلة على روسيا دون مرجعية أممية وكذلك تهديد الصين ضمنيا بمثل هذه العقوبات في أي تطور يحدث من قبلها اتجاه تايوان، ومآلات كل ذلك على الاقتصاد العالمي سلبياً فما يمر به العالم هو مراحل النزاعات التي ستعيد توزيع مراكز القوى ومن سيصبح الأكبر تأثيراً ودوراً في قيادة العالم لكن هل ستنتهي محاولات الغرب لبقائهم على رأس التفوق العالمي اقتصادياً وسياسيا وعسكرياً وتكنولوجياً بالطرق والوسائل المتبعة حالياً أم أن المواجهة ستصل إلى مرحلة الحرب الشاملة في السنوات القادمة فمن الواضح ان ما كان يدور في الغرف المغلقة من حوارات بين تلك القوى اصبح من الماضي والاتجاه هو للمواجهات المباشرة والتهديدات العلنية والتصعيد بكل النواحي هو اللغة السائدة اليوم.