العالم يمر بمرحلة متشعبة في تعقيداتها فالضغوط كبيرة على الاقتصاد العالمي ولعل أكبر التحديات هو ملف التضخم الذي أصبح لحد ما منفلتاً فأميركا ودول الاتحاد الاوروبي تسجلان نسباً تضخمية فوق 8 بالمائة وهي ارقام لم تحدث منذ اربعة عقود وحلول هذا الملف هي اكثر تعقيداً منه، فهي خليط ما بين سياساتهم الاقتصادية الداخلية التي اتخذت بعد تفشي فايروس كورونا قبل عامين من خلال فائدة صفرية، وجبال من الاموال طبعت وضخت بالاسواق فألهبت اسعار الاسهم والسلع، بالإضافة لما نتج عن انقطاعات عالمية بسلاسل الامداد مع الاقفال الكبير الذي وقع في عام 2020 للحد من تفشي وباء كورونا، الا ان الحرب الروسية الاوكرانية زادت من حجم المشكلة لما للدولتين من تأثير بالغ بصادرات العالم الغذائية وكذلك الطاقة والمعادن لكن هل ما تقوم به الدول الغربية من اجراءات بفرض عقوبات على روسيا ناهزت 6000 عقوبة وما اتخذته موسكو ايضا من قرارات في صادراتها من النفط والغاز وتعطل لامدادات القمح والحبوب خصوصا من اوكرانيا وانخفاض انتاجها النفطي بحدود 9 بالمائة بمعزل عن السبب الفني وهي من اكبر منتجي ومصدري النفط عالميا يعطي انطباعاً بأن التضخم تحول لسلاح في هذه الحرب الروسية مع الغرب الذي يدعم اوكرانيا لتحارب عنه بالوكالة.

في الحقيقة يمكن قراءة ملف التضخم من زاوية سياسية وليست اقتصادية فكلا الطرفين المتحاربين سواء موسكو بدخولها المباشر لاراضي اوكرانيا او الغرب الذي يحاربها بشكل غير مباشر يقومان فعلياً برفع معدلات التضخم عالمياً، ويراهنان على قدرة كل طرف بالصبر لاطول مدة ممكنة بينما يبحث الغرب عن خفض اسعار النفط والغاز لتكون معالجة التضخم من جانب تكاليف الطاقة ماهي الا محاولة كسب مؤقت للناخبين خصوصا في اميركا التي تنتظرها انتخابات نصفية للكونجرس بعد خمسة أشهر، لكن روسيا قد ترى في بقاء اسعار الطاقة عند مستوياتها الحالية فرصة ليس فقط لتعويض تكاليف الحرب بل للضغط على البيت الابيض وحكومة الديمقراطيين لكي يدخلوا مفاوضات امنية تلبي شروط موسكو لوقف الحرب اذا ما اعتبر انها فعلا تستخدم تصدير التضخم كسلاح ضد الغرب، فاذا حصد الجمهوريون مقاعد تعطيهم الغالبية بالكونجرس فسيشلون قدرة حكومة الديمقراطيين برئاسة جو بايدن على تمرير اي قرار يحتاج لموافقة مجلسي النواب والشيوخ.

وكذلك فإن فرص عودة الجمهوريين للعودة للبيت الابيض تصبح اكبر بكثير بعد عامين تقريباً بينما تواجه حكومات دول الاتحاد الاوروبي انقساماً في مواقفها تجاه موسكو تحديداً فيما يتعلق بامدادات الغاز والنفط، وعدم قدرتهم على تحقيق امن الطاقة بسهولة وهو ما سيترك اثراً بالغاً بالمستقبل في انسجام دول الاتحاد تجاه مختلف القضايا وينذر بإضعاف مواقفه مستقبلاً بل وحتى خروج دول منه فقد لا تكون بريطانيا الدولة الوحيدة او الاخيرة التي خرجت منه.

بالمقابل فإن الغرب بقيادة واشنطن يرفع التكاليف على موسكو ويضيق عليها الخناق بعد ان انسحبت مئات الشركات الامريكية والاوروبية من السوق الروسي والتي لن يسهل تعويضها سريعاً بما تقدمه من خدمات او منتجات بل ان بعض التقارير تشير ان انتاج موسكو من مختلف السلع قد يتأثر بتلك العقوبات كثيراً نتيجة لتوقف امداداها بقطع الغيار او التكنولوجيا الغربية التي تستخدم في مختلف صناعات روسيا مع احتمال ارتفاع البطالة وزيادة الاعباء على ميزانية الدولة ببنود الحماية الاجتماعية وتراجع الموارد المالية واحتجاز مئات المليارات من الدولارات التي تملكها روسيا في مصارف الغرب وهو ما قد يرفع تكاليف الاقتراض على شركاتها وعلى الحكومة نفسها بنسب عالية جداً ويدخل البلاد بركود تضخمي حاد وعميق فإلى جانب المواجهات المسلحة على ارض اوكرانيا هناك حروب بينهم سيبرانية واعلامية واقتصادية ولعل التضخم اصبح ابرز هذه الاسلحة التي يستخدمونها لاختبار صبر كل طرف ورضوخه لمطالب الاخر.

بينما الاثر غير المباشر على الطرفين سيأتي من خلال الدول المتضررة في قارات العالم التي لاعلاقة لها باحداث اوكرانيا، والتي ستتحرك لتحقيق حماية لاقتصاداتها وامنها الغذائي اذ سيميل كل طرف لمن يدعمه من القوتين المتصارعتين وهو ما سيرسم خارطة جديدة للتحالفات والعلاقات الدولية.

التضخم اصبح خارج سيطرة البنوك المركزية للقوى الكبرى وباتت السياسة هي مفتاح الحل او التأزم فيه والخطورة ان تطول هذه الحرب وينتقل مستوى التضخم لمرحلة لا يمكن السيطرة عليه فيها اذا ما توسع استخدامه كسلاح بين هذه القوى وامتد تأثيره إلى ما لا تحمد عقباه، ولا يمكن ايجاد حل له وبما يضع العالم في مربع الركود التضخمي وينسف معه كل ما اتخذ من مبادرات واجراءات تحفيزية لاستعادة نمو الاقتصاد العالمي بعد الركود الحاد الذي ضربه في بداية جائحة كورونا.