الغاز اللبناني كالسمك، كلاهما في البحر ولا يحسب اللبنانيون السمك سمكاً إلا إذا أخرج من الماء. والغاز كذلك، ليس غازاً ولا أي شيء آخر ما دام هو تحت الماء. وعليه لا يمكن لبنان اعتبار نفسه بلداً نفطياً أو غازيّاً قبل أن تُملأ البراميل وتدخل قوارير الغاز اللبناني إلى المنازل بأسعار مخفضة وتعمل معامل الكهرباء (القديمة والتي ستبنى) لإنتاج حاجة لبنان وما يفوقها من الكهرباء، وتبحر البواخر محملة بالوقود اللبناني إلى الصين والهند واليابان، أو يتدفق الغاز عبر الأنابيب إلى أوروبا ليسد بعض النقص المتأتي عن مقاطعة الغاز الروسي. إنه مشهد رومنسي يشبه الأحلام، لكن أن تكون بلداً نفطياً يعني كل ذلك أن تكون في بحبوحة.

ليس لبنان بلداً نفطياً بعد، وقد لا يكونه، لا شيء مؤكداً حتى الآن، ولا أحد يملك معلومات كافية ووافية، لا حول الكميات الموجودة تحت المياه الإقليمية اللبنانية، أو إذا كانت موجودة أصلاً، ولا أحد يعرف متى سيبدأ التنقيب ولا متى ولا كيف، وما هي المهل وكل التفاصيل الأخرى... لا أحد يعرف، وفي أحسن الحالات من يعرف يخفي المعلومات ويحجبها لغاية في نفس يعقوب، ويعقوب اللبناني غاياته معروفة للداني والقاصي. كل القصص التي رُويت عن الغاز والنفط تحت البحر، وعلى بعد رمية حجر من الشواطئ، وكل الوعود والآمال لم تكن أكثر من مسكّنات وأوهام باعها السياسيون للناس بأغلى الأثمان، وسرعان ما تبين أنها مصنوعة في مختبرات مزيفة كاذبة.

يخبط سياسيو لبنان في ملف الغاز خبط عشواء، كلٌ يغني على ليلاه ولكل مواله. أضاع عهد الرئيس ميشال عون القوي ست سنوات انتهت بلبنان إلى سابع أرض، وها هو على مشارف نهايته ولم يتقدم خطوة في هذا الملف الحيوي والذي قد يكون نافذة الخلاص الوحيدة للبلد. يذهب لبنان إلى المفاوضات مع إسرائيل حول تحديد الحدود البحرية بينهما برعاية أميركية مشتتاً، بين ما هو الحد الأقصى وما هو الحد الأدنى لما يمكن القبول به. يقول رئيس الجمهورية شيئاً ويقول رئيس مجلس النواب شيئاً آخر ويقول رئيس الوفد المفاوض شيئاً مختلفاً ويشرح الخبراء، وما أكثرهم، وأقل نفع معظهم، أشياء أتوا بها من كتب قديمة أو من تصريحات نارية.

التخبط اللبناني مفهوم وطبيعي، ملف مثل هذا يتطلب وجود دولة وفي لبنان ليس هناك دولة، والأدلة أكثر من أن تُعد وتُحصى. لقد وأدوا مشروع الدولة الواحدة الموحدة وحوّلوها دويلات طوائف، لكل منها زعيمها وحامي حماها ومصالحها تحت مسمى حقوق الطائفة. وطبيعي أنه إذا حضرت حقوق الطوائف ضاعت حقوق الدولة باعتبارها الحاضنة الكبرى لعموم المواطنين من كل الطوائف. كيف تدير دولة يتقاتل ساستها على كل شيء، من تعيين حاجب إلى تشكيل حكومة، ملفاً بحجم ملف استخراج الغاز والنفط؟ هذا ملف استراتيجي بتشابكات دولية، وبعقدة معقدة اسمها "الشراكة" مع إسرائيل، وما أدراك ما هي ومن هي إسرائيل.

يذهب لبنان إلى المفاوضات الحدودية مترهلاً، ويفاوض الشركات المنقبة والمستخرجة والمسوقة ضعيفاً، لا حول له ولا قوة، لا شيء يقدمه من مظاهر الحزم والقوة والثقة. لا شيء عنده ليقدمه سوى البحث في الكواليس عن القومسيونات والحصص ومحاصصة الأرباح وتوزيعها على أزلام الطوائف ومناطقها، بعد أن يقتطع زعماؤها حصصهم عبر الشركات الرديفة وشركات الخدمات التي أُنشئت أو ستنشأ على هامش الغاز، إذا استُخرج ولم يكن مصيره كمصير البلوك الرقم 4 الذي عملت فيه شركة "توتال" الفرنسية ثم أوقفت التنقيب، لأنها لم تجد شيئاً بعدما كانت تقارير وزير الطاقة آنذاك تشير إلى بحر من الغاز؟ هل فعلاً لم تجد "توتال" شيئاً؟ وماذا فعل المسؤول أو لجنة الخبراء أو الشركة التي قبضت ثمن الدراسة التي أكدت وجود الغاز عشرات وربما مئات الملايين وكانت النتيجة فالصو؟

هل يُخدع اللبنانيون مرة جديدة ويأملون بالغاز الذي يتدفق من البحر إلى منازل الإسرائيليين ومصانعهم وإلى أوروبا عبر البحر؟ الأفضل ألا يأملوا لأن هذه "الدولة" ليست دولة غاز.

إسرائيل، العدو الذي نتحدث عن أطماعه في ثروات لبنان منذ سبعين عاماً، تسعى بكل إمكاناتها وقوّتها السياسية والدبلوماسية والعسكرية لتحقيق هدفها، ولبنان ما زال يصرف جهده في التحذير من مخاطر هذه الأطماع ومن تداعياتها على أمن المنطقة والعالم، ولا أحد يستجيب.

إسرائيل توشك أن تسرق حقل كاريش الحدودي، ولبنان يلتمس عودة الوسيط الأميركي لتحديد الحدود. إسرائيل لن تنقّب عن الغاز، الغاز موجود بحسب دراسات حقيقية وتعرف مكانه وحجمه. ستثقب قعر البحر وتمد أنبوباً يخرج منه الغاز خلال أشهر قليلة، يكون سياسيو لبنان خلالها يتقاتلون على من يشكل الحكومة ومن هم الوزراء وما هي حصة فلان وحصة علان وأين الثلث الضامن والربع الخالي، ومن سيكون الرئيس المقبل... وهي أمور يجب ألا تستغرق أسبوعاً لو كانت هناك دولة.

لا تنتظروا غازاً ولا نفطاً، وأولادكم الذين أرسلتموهم بالآلاف إلى الجامعات الخاصة ليدرسوا هندسة النفط، ابحثوا لهم عن عمل آخر أو سفروهم إلى بلدان فيها دولة.