ثمة سر ما يكمن في الكلمة يجعلها تحمل قوة لا نهائية، ومن يملك القدرة على اكتشاف هذا السر وتوظيفه فإن هذه القوة تنتقل من الكلمة إلى من يكتبها، فهناك بعض الكلمات التي تستطيع نقل المشاعر وتصويرها فتصبح هذه المشاعر حية خالدة..

أثناء محاكمة الممثل الأميركي "جوني ديب" الأسابيع الفائتة، وأنا لم أتابع المحاكمة لكني أسمع بعض الأحداث من هنا وهناك، على أنني قررت البحث عن بعض أفلامه القديمة التي لم أشاهدها من قبل فوقع بين يدي فيلم عنوانه "البوابة التاسعة"، وقد صدر هذا الفلم عام 1999م، والحقيقة أنني استغربت أنني لم أشاهده قبل ذلك خصوصاً أنني كنت مغرماً بالسينما في تلك الفترة. لقد أعزيت ذلك إلى انشغالي بعد انتهائي من رسالة الدكتوراة عام 1998م، فقد كنت أعيش مرحلة جديدة من الحياة ولكل مرحلة نسقها وظروفها. الفيلم يتحدث عن أحد الكتب التي صدرت خلال القرن السابع عشر، في إسبانيا حسب ما أذكر، ولم يتبقَ منه سوى ثلاث نسخ، تدور أحداث الفيلم حول تكليف أحد جامعي الكتب التاريخية لجوني ديب الخبير في أصالة الكتب بالتأكد من النسختين الأخريين، فإحداهما في إسبانيا والثانية في باريس، ويقوم الخبير بالبحث والتقصي، وتحدث أحداث كبيرة وكثيرة نتيجة للبحث حول هذا الكتاب الذي يحمل عنوان "البوابة التاسعة"، ويتضح بعد ذلك أن النسخ الثلاث تكمل بعضها وتشكل هذه البوابة التي تربط من يفك الشيفرة بعالم سفلي شيطاني.

من بداية أحداث الفيلم يظهر العبق التاريخي للكتاب، وتظهر الكتابة كقوة سحرية إسطورية تفتح العوالم المغلقة على بعضها وتثير دهشة الأسئلة. يظهر غلاف الكتاب العتيق كبوابة نحو الخيال تقنعنا بأن هناك بوابة تاسعة سيفتحها سر هذا السفر التاريخي على نحو ما، لكن تسلسل أحداث الفيلم كان يشير دائماً إلى أن هناك قوى ساكنة بين أسطر بعض الكتب، وأن فك شيفرة هذه القوة تمنح الإنسان قوة لا نهائية. ثمة أساطير حول الكتب والكلمات، على وجه الخصوص، ويبدو أن هذه الأساطير رافقت الإنسان منذ أن اكتشف الكتابة، وبدأ يدون الأحداث حوله ويسجل ما يدور بخلده، وعندما تحولت الكتابة إلى سجلات للأسرار أصبحت جزءاً من المغامرة التي يسعى بعض البشر لخوضها وفك غموضها. للكتابة قوة مؤثرة وعميقة تغير بعض الناس، فلا غرو إذن أن تكون أول كلمة نزلت في القرآن هي "اقرأ"، فهذه الكلمة هي مفتاح كل معرفة ولكن أقرأ ماذا؟

لا أنكر أبداً أنني أنجذب بشدة نحو الأفلام السينمائية التي تتحدث عن الكتابة والكتاب، ففي العام 2010م شاهدت فيلم "الكاتب الشبح"، والمقصود هنا هو الكاتب الذي يقوم بالكتابة عن بعض الشخصيات ويسجل مذكراتهم، هو مجرد كاتب أجير دوره يقتصر على صياغة الأحداث والأفكار لكنه لا يظهر في الكتاب. في هذا الفيلم تدور الأحداث حول شخصية سياسية، وتنتهي مشاهد الفيلم في نهاية المطاف بمقتل الكاتب الشبح وتناثر الأوراق على الطريق، الخوف من الكتابة أو الانبهار بنصوصها والتأثر بها مرتبطة بقوة الكلمة، والكلمة هنا تقود إلى المعني وتنقل الأحداث وتفشي الأسرار. في هذا الفيلم كانت الأحداث تتطور لتبين أن الإقدام على الكتابة ليست مغامرة هينة، وأنه عندما تقحم نفسك في حياة الآخر فيجب عليك أن تتحمل ما يمكن أن تتفاجأ به. وأذكر هنا أحد الأفلام المصرية، فقد كانت أحداثه تدور حول راقصة قررت أن تكتب مذكراتها فثارت ثائرة من تقاطعوا معها، وهذا أمر ليس بمستغرب، فالكلمة تكشف كثيراً من الأسرار التي لا نريد أن يطلع عليها أحد.

ولعل أكثر الأفلام التي أثارت انتباهي حول قوة الكلمة وتأثيرها العميق في النفس هو فيلم "الكلمات" Words الذي صدر عام 2012م، وتدور أحداثه حول كاتب شاب يحاول أن يثبت وجوده في عالم الكتابة لكنه لا يجد من يقتنع بموهبته، وأثناء سفره لشهر العسل في باريس تشتري له زوجته حقيبة قديمة من محل "خردوات قديمة"، لكنه يفاجأ بأنه يوجد في الشنطة لفافة أوراق، ويظهر بعد ذلك أنه مكتوب فيها قصة لشاب وشابة كتبت أثناء الحرب العالمية بأسلوب أدبي مبهر. يدّعي الكاتب الشاب بعد ذلك أنه من كتب هذه القصة ويقدمها لأحد الناشرين فيذهل الناشر من المستوى الأدبي للقصة ويقرر نشرها، ثم يشتهر الكاتب بعد ذلك. لكن الكاتب الأصلي يظهر على المشهد وتتصاعد أحداث الفيلم بعد ذلك.

ثمة سر ما يكمن في الكلمة يجعلها تحمل قوة لا نهائية، ومن يملك القدرة على اكتشاف هذا السر وتوظيفه فإن هذه القوة تنتقل من الكلمة إلى من يكتبها. هناك بعض الكلمات التي تستطيع نقل المشاعر وتصويرها فتصبح هذه المشاعر حية خالدة، وهناك بعض النصوص التي تصور المشاهد البصرية فيصبح المشهد متجدداً على الدوام لا تحيط به صورة. لذلك طالما شعرت بالحيرة، فهل قوة الكتابة تكمن في البلاغة أم في الموضوع؟