لمواجهة متاعب مع نواب حكومته، والصحافة والمعارضة والرأي العام البريطاني التجأ رئيس الوزراء، بوريس جونسون، لسابقة من تاريخ حزب المحافظين الحديث؛ وسحب ورقة من كتاب أكثر الزعماء نجاحاً، الراحلة الليدي مارغريت ثاتشر (1925 - 2013).
جونسون متهم من خصومه في الحزب الحاكم، والمعارضة، بتقليد أحد أهم سياستها الناجحة من دون دراسة كافية، وهو منح حق تملك المسكن للمستأجر في وزارتها الأولى (1979 - 1983) مقابل ما يعرف في مصر «بالمساكن الشعبية» - التي بنتها البلديات المحلية والمصالح الحكومية لذوي الدخل المحدود. وقد استفاد من السياسة الثاتشرية ستة ملايين شخص في عشر سنوات، انتقل خلالها مليونا ونصف المليون عقار من ملكية الدولة إلى ملكية المستأجرين.
ملكية المسكن ظاهرة بريطانية قديمة من القول المأثور «بيت الإنجليزي قلعته».
هناك 32 مليون ومائتا ألف أسرة في بريطانيا يقطنون 24 مليون وسبعمائة ألف مسكن منهم خمسة عشر مليون ونصف المليون (65 في المائة) يمتلكون المسكن، وأقل من ثلث هؤلاء يمتلكونه بلا قروض، والباقي (قرابة أحد عشر مليوناً) عليهم قروض لبنوك الإسكان بأقساط لفترة تتراوح ما بين عشرة أعوام إلى ثلاثين عاماً.
سياسة ثاتشر، بجانب زيادة شعبيتها وإعادة انتخابها، كانت إنجازاً تاريخياً اجتماعياً بأهداف مخططة بالنسبة لاقتصاديات الأفراد، والسياسة المالية العامة.
قلصت سيطرة وتحكم الدولة والمؤسسات الرسمية في الفرد كمستأجر والدولة كمالك، وأيضاً حققت رواجاً اقتصادياً، لأن امتلاك المسكن، زاد من نشاط ظاهرة بريطانية أخرى، وهي عمليات تحسين العقار وترميمه فأدى ذلك لانتعاش سوق العمالة في قطاع الإصلاح المعماري. ورفع المستوى الاجتماعي والاقتصادي لطبقات فقيرة تمكن أفرادها من توريث الثروة إلى الأبناء.
الحكمة الأخرى، والتي يستحسن لبلدان أخرى دراستها، أن المساكن المملوكة للدولة ينفق عليها من أموال دافع الضرائب، سواء من الميزانية العامة أو البلدية المحلية، لكن نقل ملكيتها لسكانها جعلهم مسؤولين عن الصيانة والإصلاحات مما يوفر هذه النفقات، التي يمكن توجيهها للمرافق والصحة والتعليم. أيضاً الدخل من بيع المساكن قدم للحكومات المحلية رأسمال معتبراً يستثمر في بناء مساكن جديدة.
جونسون يحاول تقليد سياسة ثاتشر، بإتاحة فرصة تملك المساكن، لفئات لا تسمح ظروفها المادية، ولا القوانين الحالية بتملكها عقارات.
إنها الفئات التي تتلقى إعانات اجتماعية، كإعانة البطالة (تمويل الباحثين عن عمل)، أو إعانة عدم القدرة الكاملة (لأسباب صحية) للعاملين بعض الوقت، و«دعم الدخول المنخفضة» لأسر عاملة لا يكفي دخلها (152 دولاراً أسبوعياً) لكل تكاليف المعيشة.
كل هذه الفئات، تدفع الدولة أو الحكومة المحلية إيجار مسكنها بجانب الإعانة.
جونسون يريد تمكين هذه الفئات من شراء المسكن، وبدلاً من دفع الخزانة العامة الإيجار لصاحب البيت (سواء قطاع عام أو خاص) تدفع كقسط شهري للقرض اللازم لشراء العقار.
المشروع، نظرياً، مفيد للأفراد والاقتصاد العام للأسباب التي ذكرناها، فهل يمكن تطبيقه عملياً، خاصة مع عوائق يصعب تجاوزها مما جعل الصحافة والمعارضة تتهم جونسون بالتلويح بسياسة تثير مشاعر الحنين لثاتشر لدى الرأي العام ليتعاطف معه.
البنوك تقرض لشراء المسكن ما قيمته أربعة أضعاف الدخل السنوي، وأقصى حد خمسة أضعاف)، بينما يدفع طالب القرض مقدماً لا يقل عن عشرة في المائة من ثمن العقار.
قبل أربعين عاماً مثلاً كان متوسط ثمن العقار ما بين ثلاثة إلى أربعة أضعاف دخل الأسرة السنوي، اليوم المتوسط سبعة أو ثمانية، ويبلغ في بعض المناطق كلندن أكثر من عشرين ضعفاً.
جونسون يقترح أن يعتبر بنك الإقراض الدعم الذي تقدمه الحكومة بمثابة دخل، وهي فكرة طيبة إذا تمكن من إقناع مؤسسات الإقراض بعدم رفض هؤلاء الزبائن الجدد، وهو ما يتطلب تغيير لوائحها.
سعر الفائدة تحدده عدة عوامل، فكلما زاد المقدم الذي يدفعه الشاري قل سعر الفائدة. أيضاً يحدده ما يعرف بحجم المجازفة التي يخاطر بها البنك العقاري أو جمعية الإقراض، وهو ما تحدده قدرة المقترض على دفع الأقساط، وهي الدخل، ومدى الديون الأخرى فيما يعرف بسجل الديون، ودخله الشهري والتزاماته، ومدى انتظامه والتزامه بدفع الإيجار وأقساط ديون أخرى كبطاقات الائتمان.
هذه العوامل، تجعل أصحاب الدخول المرتفعة والطبقات الثرية في وضع أفضل، فمؤسسات الإقراض والبنوك تحسب لها سعر فائدة منخفضاً عن تلك التي يدفعها الفقراء.
أيضاً أمام الأسر التي تتلقى الدعم أو الأسر الفقيرة، عقبة توفير المال اللازم لدفع المقدم من ثمن العقار. حكومة ثاتشر عدلت اللوائح في قانون الإسكان لعام 1980 لتحسب نسبة من الإيجار الذي دفعته الأسرة طوال مدة سكنها في العقار كمقدم للثمن؛ وهو غير متاح اليوم في حالة التأجير من القطاع الخاص في سياسة حكومة جونسون، مما يجعل المشروع يدور في دائرة مفرغة، ويشك البعض في جدوى تطبيقه. فشرط تلقي أي إعانة أو دعم للدخل ألا يكون للأسرة مدخرات تزيد على عشرين ألف دولار، أي أن الغالبية الساحقة من الأسر المستهدفة بالمشروع ليس لديها مدخرات تكفي لدفع المقدم.
هناك اقتراح بإنشاء صندوق كضمان لطمأنة البنوك ومؤسسات الإقراض بمنح القرض بتقليل مقدم الشراء من عشرة في المائة إلى اثنين في المائة. وهي مجازفة، من وجهة نظر مؤسسة الإقراض، لأن العقار هو ضمان القرض في حالة العجز عن تسديد الأقساط الشهرية؛ فماذا لو انخفض سعر العقار عن قيمة القرض؟
وقد حدث ذلك في تسعينات القرن الماضي وفي الأزمة المصرفية في 2008 وقرر الكثيرون عدم دفع الأقساط، وترك العقار لبنك الإقراض، والحكومة مضطرة إلى إيجاد مسكن بديل لهذه الأسر في هذ الحال.
ويقترح جونسون رفع الحد الأقصى للادخار كشرط تلقي الدعم، وتغير البند لمدخرات الأسرة المستهدفة إلى بند مدخرات المعاشات. فهناك عدة أنساق من أوعية الادخار، والادخار للمعاش له شروط لأنه يدخل ضمن استثناءات الإعفاءات الضريبة، منها منع صاحب الادخار من صرف أي مبلغ من الادخار قبل بلوغ سن المعاش.
كل هذه السياسات، في حالة موافقة البرلمان عليها، تتطلب تعديل لوائح وقوانين مالية في إجراءات بيروقراطية معقدة لم تقدم حكومة جونسون إجابة شافية لها، مما يقوي اتهام المعارضة أنه يعلن مشاريع بلا أي احتمال لوضعها موضع التطبيق.