من البداية، وعشية الحرب الروسية على أوكرانيا، قالها بصراحة مندوب الصين لدى الأمم المتحدة، تشانغ جون، إن مجلس الأمن إذا لم يتعامل مع الأزمة المفتوحة على المجهول بشكل صحيح، أو إذا مورست ضغوط، وفُرضت عقوبات بشكل أعمى، فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى مزيد من الضحايا والخسائر والأوضاع المعقدة والفوضوية، والصعوبات في تجسير الخلافات. وبعد أن اندلعت الحرب قالت الصين إنها تشعر بقلق عميق، وإن الأمر وصل إلى نقطة «لا تريد الصين أن تراها».
كان المندوب الصيني في مجلس الأمن هو الحكيم الوحيد تقريباً بين أصوات متشنجة أو مترددة أو منفعلة أو متوترة. قال بصراحة إن القضية الأوكرانية ليست أمراً ظهر فجأة، ولم تحدث الحرب بين عشية وضحاها؛ لكنها نتيجة تفاعل عوامل مختلفة على مدى فترة طويلة، قد تعود إلى تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي.
وعبَّرت الصين مراراً عن أنها تؤيد وجود أمن مشترك وشامل وتعاوني ومستدام، ولا يكون ذلك على حساب أمن الدول الأخرى؛ لأن الأمن الإقليمي ينبغي ألا يعتمد على تقوية أو توسيع الكتل العسكرية أو الأحلاف ذات البعد التهديدي.
فهذا البلد الموغل في القدم، وربما يصل ذلك إلى العصر الجليدي، كان «مخترع» الحكمة والدهاء، و«مصنع» الحكماء والعلماء. ولو تابعنا خطابات السياسيين الصينيين منذ عهد الرئيس الراحل ومؤسس الصين الحديثة، ماو تسي تونغ، لأدركنا أن خطاباتهم الثورية كانت دعائية أكثر مما هي حماسية أو تهديدية أو قتالية. وأضرب للقراء مثلاً: خلال دراستي الجامعية، كنا نذهب بين فترة وأخرى لزيارة السفارة الصينية في بغداد، وكانت تقع فيما تسمى حالياً «المنطقة الخضراء» مع سفارات أخرى عديدة، للحصول على مجلات صينية أو كتب دعائية مجانية، من بينها «الكتاب الأحمر»، وبجانبها «حفنة كف» من الفستق الصيني الممتاز! وأدركتُ منذ ذلك الحين أن «السياسة تحتاج إلى حفنة من الفستق» للاقتناع بنظرياتها أو هضم تحليلاتها! وهذه حكمة مضافة من بلاد الملوك والأباطرة والشيوعيين ذوي البدلة الخشنة الوحيدة، والشيوعيين ذوي البدلات العديدة والأنيقة.
لقد تغيرت الصين فعلاً من الأكواخ والكهوف إلى الأبراج ناطحة السحاب وغزو الفضاء. وحين انتشرت مطاعم «كنتاكي» و«ماكدونالدز» الأميركية، في بكين وشنغهاي، صار الرجل العادي الصيني يحتفظ بالكيس الورقي الذي يحمل اسم المطعم الأميركي، ويضعه على الجدار في غرفة الاستقبال، لتعريف الضيوف بأنه من طبقة تأكل مثلما يأكل الرئيس الأميركي السابق ترمب ونجوم هوليوود!
خلال العقدين الأخيرين من القرن الحادي والعشرين، صارت الصين دولة لها بصمات وتواقيع اقتصادية وتجارية وخدمية وعلمية وإلكترونية وعمرانية، لا تستطيع دولة أخرى أن تجاريها فيها. وعلى الرغم من أن بكين تعاملت بهدوء مع الأزمة الأوكرانية، فإن الولايات المتحدة تسببت في توتر العلاقات بين البلدين، في مساحة بحرية لم تكن متوقعة في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية شمال أستراليا. لكن المشكلة كما تقول مجلة «فورين بوليسي» الأميركية تكمن ليس في التحالف الروسي – الصيني التقليدي منذ عهد الرئيس ماو تسي تونغ، وإنما في «الحكمة» الصينية التي تتمثل في «غموض» التصريحات الصينية حول الطموحات الدولية لبكين.
الرئيس الأميركي الوحيد الذي قام بزيارة مفاجئة إلى الصين قبل نصف قرن، هو ريتشارد نيكسون، ومن يومها لم تحمل جوازات سفر أي رئيس أميركي أختاماً صينية غير أختام تايوان.
بالنسبة للعالم العربي، ترى الصين بحكمتها أن شعوب الشرق الأوسط هم سادة هذه المنطقة، ولا يوجد أبداً «فراغ سلطة» ولا حاجة إلى «آباء أجانب». وتؤكد بكين أن القضية الفلسطينية هي جوهر قضية الشرق الأوسط، ويجب تصحيح هذا «الظلم التاريخي الأكبر» في أسرع وقت ممكن، ودعم القضية العادلة للشعب الفلسطيني. وعملياً قدمت الصين اقتراحاً من أربع نقاط لحل القضية الفلسطينية، ومقاربة من ثلاث نقاط لتنفيذ «حلّ الدولتين»، إلا أن العقبة الوحيدة في هذا المجال هي إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة. وعلى الصعيد الإسلامي تمت في مارس (آذار) الماضي، لأول مرة، دعوة وزير خارجية الصين لحضور اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي.
شهدت موسكو يوم 16 يونيو (حزيران) الحالي حدثاً مهماً، حين اتصل الرئيس الصيني شي جينبينغ بصديقه القديم فلاديمير بوتين هاتفياً، مؤكداً دعم بلاده للسيادة الروسية وأمنها. وعلى الرغم من أن شي لم يذكر أي قضية محددة مثل أوكرانيا أو تايوان، فإن الكرملين أشار إلى أن الرئيسين اتفقا على توسيع التعاون في مجالات الطاقة والمال والصناعة والنقل «مع الأخذ في الاعتبار الوضع الاقتصادي العالمي المعقد بسبب العقوبات الغربية».
والصين أقل الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن استخداماً لحق النقض «الفيتو»، فهي لم تستخدمه إلا 16 مرة؛ 8 منها مع روسيا لدعم حكومة بشار الأسد، بينما روسيا استخدمته 143 مرة، والولايات المتحدة 83 مرة، وبريطانيا 32 مرة، وفرنسا 18 مرة. فالصين واحدة من دول نادرة تتأنى في استخدام «الفيتو» في الوقت المناسب، بما يخدم مصالحها وسمعتها وعلاقاتها الخارجية.
والشعب الصيني شعب ضاحك، ورئيسه أيضاً، وهو القائل: «خيرُ حذاءٍ ما يناسب القدمين، وخيرُ الحكومات ما تفيد شعبها».
على الرغم من أن الصين لم تدخل حرباً منذ أكثر من نصف قرن، فإن لها اليوم قواعد عسكرية برية من سريلانكا إلى جيبوتي، مروراً بكمبوديا وباكستان، وكلها تقع قرب الممرات البحرية والبرية والمضايق، مثل مالاكا وباب المندب ومضيق هرمز. ومعظمها لم تؤجج جدلاً سياسياً وأمنياً مثلما حدث في اتفاق صيني مؤخراً مع جزر سليمان في المحيط الهادي شمال أستراليا، لتثبيت قاعدة بحرية صينية هناك، وهو ما اعتبرته أستراليا تهديداً لها. إلا أن هذا لا يمنع من أن تكون الصين وسيطاً في القضايا الساخنة، مثل الحرب الأوكرانية أو الأزمة الكورية الشمالية مع كوريا الجنوبية، أو أزمة الجزر اليابانية مع روسيا، أو حتى العلاقات العربية – الإيرانية المتوترة في الخليج العربي.
ويقول الإعلامي الصيني كانغ كاي: «إن الصين ستكون بانية للسلام العالمي، ومدافعة عن النظام الدولي مع المجتمع العالمي، بما في ذلك دول الشرق الأوسط». وهو يؤكد أن «الصين تسعى جاهدة لتحقيق التنمية والازدهار والسلام في الشرق الأوسط، عبر اتفاقيات مع معظم دول المنطقة». وإحدى هذه الاتفاقيات كانت مع العراق في عهد رئيس الوزراء السابق المستقيل عادل عبد المهدي، في عام 2019؛ حيث تبين أنها «حبر على ورق» وإحدى صفحات الفساد في العراق، والطريف أن مدة الاتفاقية ربع قرن!
كلمة أخيرة: ألا تخشى الصين لو تدخلت لترطيب العلاقات العربية – الإيرانية، أن تستدير طهران نحو بكين لتزويد حرسها الثوري وميليشياتها بالأسلحة؟