التفوق الدي تحققه الدول المتقدمة أحد أهم أسبابه النمو الدائم بالإنفاق على البحث والابتكار مما نتج عنه حلول في مختلف القطاعات وتوليد ملايين فرص العمل ونمو هائل بحجم الاستثمارات والأصول بتلك الدول، ومن الجدير ذكره أن المملكة تهتم بالبحث العلمي منذ سنوات لكن لم تصل لنسبة إنفاق فعلية تناسب حجم اقتصادها واحتياجاتها، إلا أن إعلان صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع رئيس اللجنة العليا للبحث والتطوير والابتكار، عن التطلُّعات والأولويات الوطنية للبحث والتطوير والابتكار في السعودية للعقدين المُقبلين، يمثل مرحلة تحول وانتقال كبرى في هذا القطاع المهم والحيوي لأن من شأن ذلك التحديد للأولويات والتطلعات أن يوجه الجهود نحو أهداف رئيسية تطمح المملكة لتحقيقها من البحث العلمي لرفع تنافسية الاقتصاد ونمو مستدام بالناتج المحلي والاستفادة من الكوادر البشرية الوطنية المؤهلة بمختلف التخصصات العلمية.

فعند النظر لنسب الإنفاق بالدول المتقدمة على البحث العلمي فإن أغلبها تقع فوق مستويات 2 بالمائة بالمتوسط من حجم ناتجها الإجمالي بل إن كوريا الجنوبية واليابان تخطتا نسبة 3،5 بالمائة بينما في المملكة فالنسبة تتراوح حول 0،8 بالمائة من الناتج الإجمالي وهو ما يعني أن الحاجة لرفع هذه النسبة وفق الاحتياجات ضرورة لكي تتماشى مع رؤية المملكة 2030 التي تركز على تعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني الذي يعد الأكبر بالمنطقة من خلال توسيع وتنمية العديد من القطاعات الاقتصادية التي نمتلك فيها ميزاً نسبية عالية حيث قال ولي العهد : «اعتمدنا تطلُّعات طموحة لقطاع البحث والتطوير والابتكار، لتصبح المملكة من رواد الابتكار في العالم، وسيصل الإنفاق السنوي على القطاع إلى 2.5 % من إجمالي الناتج المحلي في عام 2040، ليُسهم القطاع في تنمية وتنويع الاقتصاد الوطني من خلال إضافة 60 مليار ريال سعودي إلى الناتج المحلي الإجمالي في عام 2040، واستحداث آلاف الوظائف النوعية عالية القيمة في العلوم والتقنية والابتكار، بمشيئة الله».

فالوصول لهذه النسبة التي عملياً ستتضاعف ثلاث مرات قياساً بالمستويات الحالية تعد قفزة كبيرة وتتماشى مع المعدلات العالمية للدول المتقدمة لكن عند النظر إلى حجم الناتج المحلي اليوم وما سيكون عليه العام 2040 حيث يتوقع أن يتضاعف أكثر من مرة واحدة على الأقل قياساً بالناتج الإجمالي الحالي فهذا يعني أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي ستتضاعف بما لا يقل عن خمسة أضعاف قياساً بأرقام اليوم وهو معدل نموٍّ عالٍ جداً سينعكس إيجاباً على الاقتصاد الوطني ويعزز الاستفادة من الكوادر الوطنية التي استثمرت بها الدولة من تعليم وابتعاث وتأهيل.

أما من ناحية الأولويات فهي تستند إلى 4 أولويات رئيسة هي: الأولى صحة الإنسان والتي تمثل أهمية بالغة إذ إن الحاجة ضرورية لكي يتم توطين الصناعات الدوائية وإنتاج الأمصال واللقاحات ووضع الحلول لتقليل نسب الأمراض المزمنة وغير المعدية فجائحة كورونا كشفت للعالم كله الحاجة الماسة لزيادة الإنفاق على البحث العلمي بمجال الصحة ومع ما رافقها بالبداية من طلب هائل على المستلزمات الطبية والأجهزة كذلك أكد لكل الدول ضرورة أن تعتمد على نفسها في توفير جل احتياجاتها من داخل اقتصادها وبما أن المملكة لديها بنية تحتية ورعاية صحية متقدمة وكوادر مؤهلة فإن القدرة على تحقيق نتائج وأهداف أساسية للنهوض بالصحة محلياً واعتماد القطاع على المنتج المحلي من أدوية وأجهزة يمكن تحقيقه مع التوجه العام للنهوض بالصناعة الطبية وما يقدم من دعم لها بالأنظمة والتشريعات, ويمثل ذلك فرصة لهذا القطاع ليدخل مرحلة التنافسية دولياً فالعالم سينفق تريليونات الدولارات على الرعاية الصحية وخدماتها بالعقود القادمة إضافة لما ينفق من مستويات حالية بعد جائحة كورونا, وكذلك الانتشار السريع لأمراض العصر, والأولوية الثانية هي استدامة البيئة والاحتياجات الأساسية فالمملكة تسعى لأن تكون رائدة في الحفاظ على البيئة وتوفير الماء والغذاء والطاقة بشكل مستدام كونها احتياجات أساسية للإنسان, فعالم اليوم يواجه أزمة غذاء عالمية وحاجة ملحة لزيادة المساحات المزروعة بالعالم، كما لدى المملكة توجه لتطوير تقنيات صديقة للبيئة لتوفير المياه وتحليتها بما أنها تعد من أكبر دول العالم إنتاجاً للمياه المحلاة، بالإضافة لتقنيات احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه وهذا التوجه يأتي تأكيداً لمبادرة الاقتصاد الدائري للكربون التي أطلقتها خلال ترؤسها لقمة مجموعة العشرين في عام 2020 م والتي تمت الموافقة عليها من الدول الأعضاء بالمجموعة، إضافة إلى التقنيات المستدامة لإنتاج الكهرباء منخفضة التكلفة، كما أن الأولوية الثالثة تتمحور حول الريادة في الطاقة والصناعة واستمرارية قيادتها لأسواق الطاقة لتكون قوة صناعية عالمية من خلال ابتكار تقنيات لإنتاج الطاقة البديلة كالهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية وطاقة الرياح، واستدامة الطلب على النفط، فالتوجه العام في سياق رؤية 2030 لقطاع الصناعة في المملكة هو لإنتاج صناعات متقدمة تقنياً وذات قيمة عالية، إضافة إلى تطوير قطاع التعدين الذيعد الركيزة الثالثة بالاقتصاد الوطني .

أما الأولوية الرابعة فتتعلق باقتصاديات المُستقبل وذلك لتعزيز الابتكار في التقنيات الرقمية في القطاعات ذات الأولوية، وتطوير مستقبل الحياة الحضرية وبناء مدن ذكية صديقة للإنسان وخالية من الانبعاثات الكربونية، إضافة إلى استكشاف أعماق البحار وبناء مكانة عالمية للمملكة في مجال الفضاء، فعالم اليوم يتجه بسرعة كبيرة نحو الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة كالميتافيرس وغيرها ولابد للدول أن تحجز مكاناً لها في الاقتصاد الحديث إذا كانت تريد تحقيق أهدافها بالتنافسية.

وضوح معالم وتطلعات أولوية البحث العلمي للمملكة يوجه الموارد المخصصة لهذا القطاع نحو مجالات محددة ذات أولوية قصوى ويعظم الفائدة من النتائج المتحققة كما أن هذا التوجه يعد مكملاً أيضاً لتوجهات الدولة في تطوير قطاع التعليم عموماً وتوجهات برنامج الابتعاث الجديد الذي وضع مساراً لابتعاث كوادر وطنية إلى جامعات عالمية تؤهلهم ليكونوا باحثين فتوظيف الكوادر الحالية المتخصصة بمجالات علمية وبمؤهلات عالية وكذلك التي سيتم تأهيلها مستقبلاً في البحث والابتكار سينعكس على نمو الناتج الإجمالي وتوطين التقنيات وتصديرها أيضاً بدل استيرادها مستقبلاً مع استقطاب لباحثين عالميين مميزين وجذب استثمارات بمختلف القطاعات الاقتصادية فبدون البحث العلمي والتوسع فيه لن تتمكن أي دولة من الوصول لتنافسية عالمية وتنويع بمصادر دخلها وابتكار الحلول للتحديات والاحتياجات الاقتصادية والمجتمعية بشتى المجالات.