ثمة حذر في تقييم المراقبين والمتابعين في المنطقة لواقع السياسة الأميركية في المنطقة، وتفاوت بين من رأى أنها أتت لإصلاح ما أفسدته إدارة الرئيس جو بايدن على مدى الأشهر الثمانية عشر الماضية، ومن رأى أنها أتت لإقامة تحالف كبير في مواجهة خصوم الولايات المتحدة الدوليين على خلفية حرب أوكرانيا مع روسيا والتنافس الاستراتيجي مع الصين.
ومعلوم أن إدارة بايدن ارتكبت أخطاءً كبيرة في علاقاتها بحلفائها التاريخيين في المنطقة، أتت في سياق إرث حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما وانحيازه الغريب في تلك المرحلة إلى ما سُمّي يومها "الخيار الإيراني" للإدارة الأميركية التي جعلت من أولوياتها في السياسة الخارجية التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، في مقابل إغداق المزايا المالية والاقتصادية عليها. والتقرب من إيران يذكّر بسياسة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر في سبعينات القرن الماضي تجاه الصين التي شكلت محطة مفصلية تاريخية في العلاقات الدولية.
والحذر في تقييم نتائج زيارة الرئيس بايدن يعود إلى أمرين مهمين. الأول تراجع صدقية الإدارة الأميركية الحالية، كما الإدارات السابقة في الأعوام العشرة الماضية، في ما يتعلق بسياساتها في المنطقة، لا سيما تجاه الحلفاء التاريخيين والتقليديين الذين جرى التعريض بأمنهم القومي ومصالحهم الحيوية، من دون أن يفكر أحدهم في الإدارات الأميركية المتعاقبة بأن ثمة تغييراً يحصل في المنطقة، وتتراكم عناصره عاماً بعد عام، بحيث لم يعد من الجائز النظر إلى معادلة العلاقات بين أميركا والدول العربية في منظومة مجلس التعاون الخليجي التي كانت تقوم على "الأمن في مقابل النفط".
وبموجب ذلك، كانت الولايات المتحدة تعتبر أن الحلفاء هم عموماً مجرد "حديقة خلفية" للولايات المتحدة. لكن الأمر تغير اليوم، وباتت للحلفاء سياسة خارجية شديدة الإتقان، قامت على محاولة بناء علاقات متنوعة وتحالفات استراتيجية مع قوى مختلفة في العالم، وأحياناً متنافسة مثل أميركا، الصين وروسيا. لم تعد المنطقة حكراً على القرار الغربي وحده، رغم أن تلك الدول الحليفة للولايات المتحدة ظلت تعتبر الأخيرة الحليف الاستراتيجي الأول والأهم. المتغير الأساسي هو أنها لم تعد الحليف أو الشريك الاستراتيجي الوحيد في العالم.
سلوك الإدارات الأميركية المتعاقبة، وإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب غير مستثناة، دفع الحلفاء الكبار إلى التفكير بتنويع علاقاتهم وصداقاتهم وتحالفاتهم وشراكاتهم الخارجية وفقاً لمصالحهم. وهذا ما حصل. هذا هو الشرق الأوسط الصديق والحليف للغرب الذي حط الرئيس بايدن رحاله على أرضه منتصف الأسبوع.
كانت نية بايدن إصلاح العطب في العلاقات مع السعودية والإمارات ومصر، وحتى مع إسرائيل، غير أنه وجد أمامه قيادات من نوع جديد لديها قراءات جديدة لمصالح بلدانها. كما أنه وجد نخباً حاكمة في المنطقة مغايرة للصورة التي لطالما كوّنها الغرب، لا سيما أميركا وفق الثقافة "الهوليوودية" التي نعرفها. لقد تراجعت صدقية أميركا في المنطقة. وسلوك إدارتي أوباما وبايدن في الملف الإيراني وملف أفغانستان كان بمثابة جرس إنذار لدول المنطقة. من هنا كانت القراءة الشرق العربية لنتائج الزيارة حذرة جداً في التفاؤل، على قاعدة أن أحداً في المنطقة لن يقبل بعد اليوم أن "يضع كل بيضه في سلة واحدة"!
الأمر الثاني الذي أدى إلى الحذر في التقييم أن الحلفاء، رغم أنهم ثمّنوا سعي إدارة بايدن إلى إصلاح الأخطاء، إلا أن الأخيرة تأخرت كثيراً. فالولاية الرئاسية في منتصفها تقريباً، والانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي على الأبواب (تشرين الثاني - نوفمبر 2022)، ومعدلات التأييد الشعبي للرئيس جو بايدن وفق معاهد الاستطلاعات الكبرى منخفضة إلى حد بعيد (30 في المئة). هذا الواقع يعكس حقيقة أن الإدارة ضعيفة، والرئيس ضعيف في الوقت الذي يتحدث محيطه عن رغبته في الترشح لولاية ثانية عام 2024. في هذه الحالة، صعب على دول رئيسية في منطقة ساخنة من العالم أن تعتبر الخطاب الرسمي الأميركي الحالي خطاباً ثابتاً. فلقد أثبتت التجربة أن مشكلة الحلفاء مردها إلى التقلبات في السياسات الناجمة عن تغير الإدارات مرة كل أربع أو ثماني سنوات. من هنا الحذر الشديد في مقاربة العلاقة، واعتبار المواقف الرسمية سياسة ثابتة لن تتغير في المدى القصير. ومن هنا عدم التفريط بسياسة تنويع الشراكات الاستراتيجية التي أقيمت في الأعوام العشرة الأخيرة على أنقاض سياسة قديمة تعود إلى مرحلة التأسيس قبل نصف قرن.
- آخر تحديث :
التعليقات