"الولايات المتحدة ابتكرت أشباه الموصلات، لكننا سمحنا بإنتاجها مع الوقت في الخارج"
جو بايدن، رئيس الولايات المتحدة

لا حلول عملية آنية لأزمة إنتاج وتوريد أشباه الموصلات، أو الرقائق الإلكترونية التي باتت في العقود الماضية تدخل في كل الصناعات تقريبا. وهذه الأزمة ليست ناتجة عما جلبته جائحة كورونا من مشكلات على الحراك الاقتصادي العالمي العام، بما في ذلك اضطراب سلاسل التوريد. فهي حاضرة على الساحة الدولية منذ أعوام، وتعمقت أكثر في منتصف العقد الماضي، حيث شهدت تلك الفترة مواجهات وحروبا تجارية تعمقت مع الوقت، خصوصا بين الأطراف الاقتصادية المؤثرة عالميا. ومنذ ذلك الحين بدا واضحا، أن أزمة الرقائق الإلكترونية لن تنتهي قريبا، خصوصا في ظل عدم وجود مخططات واقعية سريعة لاحتوائها، فضلا عن نقص جلي شهدته هذه الصناعة من جهة التمويل والاستثمارات، مع ارتفاع الطلب عليها.
ولأن الأزمة تتفاقم حقا، بآفاق حلول مضطربة، أسرع الرئيس الأمريكي جو بايدن، لإعلان تخصيص 52 مليار دولار لدعم إنتاج "الرقائق" في الولايات المتحدة. ورغم أن مثل هذه الخطوة جاءت متأخرة حقا، إلا أنها تبقى ضرورية لمواجهة مخاطر تراجع زخم حراك مصانع تنتج من الأدوات الكهربائية والطبية والاتصالات إلى السيارات والطائرات والقطارات والإلكترونيات وغيرها. المسألة لا تنحصر فقط بالطبع في تأمين هذا المنتج للسوق المحلية الأمريكية وغيرها، بل تشمل أيضا جانبا يتعلق بالأمن القومي. وهذا الجانب الأهم الذي دفع الحكومات والمشرعين حول العالم إلى التحرك من أجل تأمين إمدادات الرقائق وضخ استثمارات كبيرة فيها محليا. فمع تفاقم أزمة أشباه الموصلات، دعت فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية المحورية إلى توطين صناعة الشرائح في القارة العجوز. ومع ذلك، لا تزال الخطوات بطيئة.
والحق أن حجم الاستهلاك الأوروبي لهذه "الشرائح" يبقى أقل بكثير من حجمه على الساحة الأمريكية الزاخرة بشركات التكنولوجيا التي تعتمد بصورة أساسية على هذا المنتج الصغير الحجم الكبير الأثر. فقد خصصت المفوضية الأوروبية 15 مليار يورو لتعزيز صناعة "الشرائح" حتى حلول 2030، لكنها ستبقى لفترة طويلة تحت رحمة شح الإمدادات، في حين أن الأمر يتطلب جهودا أكثر قوة، بما في ذلك توفير التسهيلات اللازمة لفتح المجال أمام دخول شركات متخصصة بهذا النوع من الإنتاج إلى السوق. الطلب العالمي على أشباه الموصلات يرتفع بسرعة البرق، ولا سيما مع توقف بعض المصانع عن إنتاجها لأسباب تتعلق بتراجع الاستثمارات، وبعض الانعكاسات السلبية لجائحة كورونا.
ومن الواضح أن هناك تفاوتا في مواجهة الأزمة من قبل شركات التصنيع المختلفة. ففي حين تمكنت مؤسسات التقنية، مثل "أبل" و"ديل" وغيرهما، من تشغيل مراكز لإدارة أزمة سلاسل التوريد والمشتريات بهذا الشأن، ظلت شركات صناعة السيارات والمركبات متأخرة خطوات بهذا الشأن، ما أدى إلى تراجع إنتاجها منذ النصف الثاني من العقد الماضي. إلا أنه حتى شركات التكنولوجيا الضخمة، واجهت نقصا في توريد "الشرائح" في الفترة الماضية. هناك أسئلة كثيرة تطرح حول ما الذي يمنع من إطلاق مصانع لـ"الشرائح" لتأمين توريدها للسوق؟ المسألة تتعلق بالتكاليف الباهظة لهذه الصناعة. فمصنع واحد صغير يكلف أكثر من مليار دولار، وفق الجهات الدولية المختصة، كما أنهم يشيرون إلى مصاعب لا حصر لها، في تأمين بيئة إنتاجية ملائمة، نظرا إلى حساسية هذا النوع من الصناعة.
في العام الماضي وحده، وفي إشارة إلى ارتفاع هائل في الطلب على "الشرائح" بلغ حجم المبيعات أكثر من 555 مليار دولار، بزيادة قدرها 26.2 في المائة على أساس سنوي. ولا توجد مؤشرات على إمكانية أن يستقر الطلب ضمن حدود واضحة. عوامل كثيرة تسهم في ذلك، من بينها بدء انتشار الجيل الخامس G5، والحرب الاقتصادية الراهنة بين الولايات المتحدة والصين، فضلا عن فتح أسواق جديدة. إلى جانب هذه العوامل، تم إغلاق عدد من المصانع في بعض الدول المصنعة لـ"الشرائح" بما في ذلك تايوان التي تعد واحدة من أهم مراكز التصنيع عالميا، إلى جانب طبعا تعمق الأزمة اللوجستية بشكل عام. واللافت أن هناك عاملا غريبا يرتبط بالتخزين غير المدروس لأشباه الموصلات، الأمر الذي يزيد من معدل هدر هذا المنتج.
يبدو واضحا أن أزمة أشباه الموصلات، لا نهاية لها في وقت قريب، علما بأنها تتفاوت من حيث القوة من بلد إلى آخر. ففي حين أن الدول الغربية لا تزال تحت رحمة وتيرة الإنتاج الراهنة، تمكنت دولة مثل الصين مثلا، أن تصل إلى مرحلة الأمان في هذا الميدان، على الرغم من أنها لا تزال تعتمد بقوة على التكنولوجيا الغربية. ليس أمام الدول الغربية سوى تكريس حقيقة أن أشباه الموصلات، تدخل حقا ضمن الأمن القومي، خصوصا في عالم مليء بالمواجهات التجارية التي لم تنته بعد، ولا تبدو نهاية قريبة لها، في ظل صراعات قوى ونفوذ، ومواجهات جيوسياسية جلبت حربا في أوكرانيا هي الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية.